عن الكتابة… الرقابة… السّلطة… والمبدع الملعون!

شخصيات الرواية

هل هي حقيقية؟ متخيلة؟ المسألة غير مرهونة بأن الشخصية حقيقية أم لا، المسألة مرهونة في هل الشخصية التي أقرأ عنها، أو أكتب عنها، مؤثرة واختطفت قلب القراء وتفاعلوا معها أم لا. بعض الكتاب، وبخاصة من هم في أول الطريق، يعرض عليك أعمالا، وإذا قلت لهم إنها ضعيفة، سيقولون لك ولكن القصة حقيقية! بعض الشخصيات التي ابتكرها كتاب كبار أقوى وأشد تأثيرا من ملايين الشخصيات التي تُدعى حقيقية. ولكن هذا لا يعني أن لا تستند إلى شخصيات تراها وتعرفها، أو عشت معها، لكنها تتطور في الكتابة، من الإنسان اليومي، إلى الإنسان الإبداعي، وأنت ككاتب تجعله يعيش في حكايات لم يعشها، وأزمنة لم يكن فيها، قد تكون الماضي، وقد تكون المستقبل.
الحقيقي في الرواية والفن، في ظنّي، هو كل ما يؤثر فينا وفي وعينا ونظرتنا للعالم، لأنه هنا ينتمي للحقيقة والجمال كفكرة مطلقة، لا للحقيقة بكونها واقعا.

الشبح

لنعترف أن الكاتب حاضر في كل ما يكتب، بأحاسيسه ورؤاه؛ لكن للمفارقة: إذا ظهر في الرواية فإن ظهوره سقطة فنية، لكن إذا ظهر في القصيدة، فلا مشكلة في ذلك!
أظن أنك حين تكتب الرواية تكون كامل الحضور، فأنت الذي تكتب اللغة، وتبنيها فنيا، وتُنطق الشخصيات، وتتركها تموت أو تحيا، تحتل المشهد أو تتهمّش، ورؤيا الرواية في النهاية هي مجمل رؤاك وأفكارك وثقافتك، لنقل: معرفتك. لكنك هنا، ككاتب، شبح، أو يمكننا القول: طيف، أما في القصيدة فأنت بلحمك ودمك وأحاسيسك المكشوفة، لك وللقارئ.

التقريرية

التقريرية تظهر في الأعمال الضعيفة، وهي لا تعتبر جزءا من تاريخ الأدب. بالنسبة لي، عملت في السعودية مدرِّسا في بدايات حياتي العملية، وكانت تجربة مؤثرة جدا بالنسبة لي، وعملت في الصحافة الفترة الأطول من بين المهن التي مارستها، وهي: التدريس، والصحافة، والإدارة الثقافية. أظن أن الصحافة تركت الأثر الأكبر في كتابتي، إذ كتبت ثلاث روايات عن أجواء العمل الصحافي، ودهاليزه، هي: حارس المدينة الضائعة، شرفة رجل الثلج، و(عَوْ)، لكن الصحافة أتاحت لي أن أعرف الكثير من النماذج، وعوالم الصحافة المبهمة للناس، التي وظفت بعضها في نصوصي.

الرقابة

الرقابة ليست ذلك الموظف الصغير الذي غالبا لا يعرف الكتابة وأصولها، ولا تلك الدائرة الصغيرة في المبنى الصغير الذي غالبا ما يكون رثّا، لا علاقة له بمباني المؤسسات والوزارات الفخمة، حتى الوزارات التي يكون تابعا لها. الرقابة هي رمزية تحكم الدولة بالفكر، بالعقل، بحرية الاعتقاد؛ وهي التي تشير إلى هذا الإنسان أو ذاك لكي يتم البطش به، وسجنه، ملاحقته، نفيه، منعه من العمل. وبالتالي، الرقابة هي جوهر السلطة، أي سلطة، فحيثما وجِدَتْ علينا أن ندرك أن ليست هناك حرية، وحيث لا توجد الحرية لا توجد الديمقراطية، ويحضر مكانهما القمع وتغييب العقل، الذي هو في النهاية تغييب الإنسان، أي تغييب الحضاري والحضارة في حياتنا، وحرمان الأوطان من المستقبل.
نحن نعاني ككتاب، وربما تكون معاناتنا هي رأس الجبل الطافي في البحر، لكن الجبل كله يعاني من الرقابة ويدفع الثمن؛ من الكتاب المدرسي، وصولا للصحيفة والمواقع الإخبارية والفضائيات.

الآخــر

الآخر غير مستعد لأن يبني جسورا معنا، إلا إذا كنا أندادا حضاريين له، ونحن، في أغلب حالاتنا- مُستهلِكين- كمجاميع، ووجود نماذج فردية مبدعة أمر حقيقي مفروغ منه، مع أن الخطاب الحضاري الوحيد هو ما تمثله إنجازات كثير من الأفراد، في كثير من المجالات. إلا أنني ألاحظ أن الفرد المبدع غير مرغوب فيه، وكلما قدّم الفرد إبداعا جديدا، ازدادت كراهية السلطة له. ففي عجلة السلطة الدوّارة لا مكان سوى لذلك الذي يكون جزءا منها، كما تدار سواقينا في الأرياف.
السلطة طاردة للحرية ومُطارِدة لها، لا ترحِّب ولا تحب الإبداع، لأن كل إبداع هو حرية، سواء كان قصيدة أو اختراعا علميا.
ما يحدث في بعض الأحيان أن يحقق لنا كتّاب أو علماء حضورا ما، محترما، ولكن ذلك لا يكفي، لأن موجة واحدة أو عدة أمواج لا تصنع بحرا.

قوة الكتابة

في ظني أن كل عمل أدبي يحمل مشروعه الخاصة، ومقوماته في تعامله مع كل ما يتعلق به من رؤى وأمكنة وأزمنة وشخوص وأحداث، لكن المسألة تبدو أكثر وضوحا حينما نتحدث عن وطن مسروق مثل فلسطين، فأنت تعيد بناء الوطن من جديد في عملك، بحيث يصبح صعبا على السارق أن يسرقه مرة أخرى؛ بل ربما تستعيده بصورة ما، وحين تكتب عن البيت الذي تمّ هدمه فأنت تكتب عن بيتك أو قريتك بطريقة لا تسمح بإعادة هدمهما من جديد، وحين تكتب عن الشهيد، أنت لا تسمح لهم بأن يقتلوه مرة أخرى في القصيدة، لكن كل هذا لا يتحقق إلا إذا قدمت عملا ينتمي لأرفع مستويات الكتابة، أو على الأقل أن تسعى لذلك بكل روحك، وهذه هي خطورة الفن، وخطورة الكتابة، والرواية بالذات، فهي أقوى أشكال الكتابة قدرة على إعادة بناء الهويات القومية.

قلب؟ نصف قلب!

كتبتُ مرة: (لا تكن نصف قلبكَ.. كن كلّهُ)، فالكاتب لا يستطيع أن يكتب بنصف قلبه عن أي قضية، أو عن أي تفصيل صغير في الحياة، أو عن قضايا وأسئلة كبرى أرّقت البشرية، فالمعيار الأساسي هو الصدق. كثرٌ هم من كتبوا عن قضايا كبيرة، ولكنهم لم ينجحوا في نقل عمق وقوة وتأثير هذه القضايا إلينا. وهذا الأمر يشمل القضية الفلسطينية، فكثير من الكتابات عنها سطّحتها وأفقرتها، ولو ترك الأمر لنشرة أخبار جيدة لكانت أكثر تأثيرا.
منذ أول حوار صحافي أجري معي قلت: القضايا الكبيرة في حاجة إلى مستويات فنية عالية للتعبير عنها. فأنت حين تبحر في بحر أو محيط بأمواج عالية، تحتاج إلى ما هو أكثر بكثير من سفينة من ورق، وتحتاج إلى ما أوسع بكثير من خبرة سبّاح.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سوري:

    الرواية هي تلك التي تعبر الزمان والمكان، والإبداع الحقيقي هو في مصداقية العمل وانغماس الريشة في حبر شرايين الكاتب
    دمت لنا مبدعا استاذ ابراهيم

  2. يقول الدكتور جمال البدري:

    في ليالي شهررمضان ناقشت مع صديق كاتب وروائي ؛ مشروع روايتي الجديدة ( الرّياح المقدّسة ) وتناولنا آفاق الرّواية في الشرق والغرب ؛ مع التركيزعلى الرّواية الروسيّة والرّواية الألمانيّة.وكان من بين تعاريف مفهوم الرّواية أنها نوع ناضج من مراهقة متأخرة للكاتب في حنينه إلى أيام المراهقة الأولى.صحيح أنّ هناك مئات الرّوايات ( العربيّة ) اليوم لكن لا توجد الرّواية ( العمود ) الذي يستند عليها البناء الإبداعيّ العربيّ المتعدد الطوابق والحجرات ؛ حتى تلك الرّوايات التي تفوزبالجوائز؛ حالما تنال جائزة تتحول إلى ( عجوز) وتركن على الرفّ.والسبب أنّ الإبداع الرّوائيّ كي يتواصل وينتج الرّواية العمود لتكون أعمدة ؛ خلق الدافع ؛ والدافع هنا استثمارالرّواية في الأعمال الفنيّة خاصة في السينما ؛ بعد تحويلها إلى سيناريو.هذه العلاقة بين الرّواية والفنّ المرئيّ غائبة عن المشهد العربيّ إلا قليلًا…فليس هناك صناعة للسينما ( الرّوائيّة ) وليس لدينا كتبة سيناريومثل الغرب إنْ قادرون على نقل روح الرّواية إلى الشاشة.والسيناريوقصّة تروى بالصور.إذًا المشكلة ليست بكيفية كتابة الرّواية إنما بكيفية نشرها.

إشترك في قائمتنا البريدية