«نحن نعيش في اللغة بالضبط كما نعيش في أجسادنا»
جان بول سارتر
حدث التواصل البشري على امتداد التاريخ عبر تنوّع مدهش من آلاف اللغات التي تحدّث أو يتحدّث بها البشر على هذا الكوكب. ومن هذا التنوّع الذي وصفناه بالمدهش تبرز عادةً عقبات متتالية كلّما التقى أحدٌ ما شخصاً يتحدّث لغةً غير لغته سواء كان اللقاء لقاء متحاورين بشكل مباشر، أو بشكل غير مباشر كلقاء كاتب بقارئ. تنهض من هذا اللقاء بين شخصيتين تتحدّثان بلسانين مختلفين ضرورةُ الترجمة بمعناها المعروف أو المتداول غالبا. لكن فعل الترجمة لا يتعلّق حصرا بمجال التداول بين لغتين، بل هو كامنٌ في النسيج اللغوي ذاته وفي كل فعل لغوي نقوم به. نحن وبشكلٍ ضمني نترجم حين ننتج اللغة ونترجم حين نتلقاها.
الترجمة بمعناها الأوسع هي نقل رسالةٍ ما من نظامٍ إشاريٍ معينٍ إلى نظامٍ آخر. هذه الرؤية الشاملة التي يقدمها لنا عالم اللسانيات والمنظّر الأمريكي-الروسي رومان جاكوبسن (1982-1896) تتضمّن ثلاثة أنواع من الترجمة. النوع الأول (Intralingual) وهو الترجمة أو التأويل داخل النظام اللغوي ذاته باستبدال الإشارات الكلاميّة (Verbal Signs) بمرادفات لها تفسّرها. ليس غريبا عن فعالياتنا اللغوية اليومية أن نعيد الكلام بأكثر من طريقة حرصاً منّا على إيصال معنى دقيق للآخر أو الآخرين. وغالباً ما نتحدث بصياغات متتالية ترجمة لأفكارنا. يلقي الشاعر أوكتافيو باث الضوء على الارتباط العميق والمحوري بين اكتساب اللغة والترجمة بقوله إنَّنا حين نتعلّم الكلام فأنّنا نتعلّم الترجمة ويشير إلى أنَّ الأطفال يبدأون تلقائياً بتبّي طرق ترجمة خبراتهم أو التعبير عنها بلغة الآخرين والتي ستتحوّل تدريجياً إلى لغتهم الشخصية. وهكذا فأنّنا جميعا نمارس عملية الترجمة هذه إلى ان نحتاز لغتنا الخاصة ونبرز كمتحدثين يبتكرون كلامهم الشخصي. ورؤية باث هذه لا تختلف كثيراً في واقع الأمر عمّا سبقه إليه ميخائيل باختين الذي سنعرج عليه في مقال آخر. بناءً على هذا يبدو لنا أن الترجمة ليست بالعملية الثانوية الناتجة عن الاختلاف اللغوي ولكنها جزءٌ من عملية اكتسابنا اللغة أو كما يقول بول ريكور «الترجمة محاكة في النسيج اللغوي نفسه». إذن فالترجمة داخل النسيج اللغوي نفسه التي يشير إليها جاكوبسن تتمثل في تفسير الكلام أو تبيينه بمفردات أخرى. النوع الثاني هو (Interlingual) أي الترجمة بمعناها المتداول؛ تأويل الإشارات الكلاميّة في لغة ما باستخدام إشارات كلاميّة تنتمي إلى نظام لغوي آخر. وهذا تحديدا ما يهمّنا هنا وما سنلقي الضوء على إشكالاته ونظرياته وتطور مجال الدراسات الأكاديمية فيه في سلسلة لاحقة من المقالات. أمّا النوع الثالث فهو (Intersemiotic) وهو ترجمة أو تأويل الإشارات الكلامية باستخدام أنظمة غير-لغويّة (Non-linguistic) وفي هذا سلسلة طويلة تمتد من نقل حكاية إلى موسيقى أو رواية إلى فيلم أو قصيدة إلى لوحة. عملية النقل هذه، في كل المجالات المذكورة متراوحةُ الصعوبة وقد يبدو في بعض الأحيان أنَّ نقل الرسالة حرفيا ضرب من المستحيل. يعتمد هذا على مدى بساطة أو تعقيد تلك الرسالة ومحيط عملها في نظامها الإشاري. الرسالة، أية رسالة، لا يمكن أن تُفهم بشكل فعّال إلا بمعرفة المرسل والمستلم ولماذا وأين ومتى. الفهم الكامل لرسالة ما هو الخطوة الأولى في مسار ترجمتها.
تبدأ مشكلة الترجمة التي نعنيها هنا (تأويل الإشارات الكلاميّة باستخدام إشارات كلاميّة تنتمي إلى نظام لغوي آخر) بشقيّها الشفوي والتحريري من طبيعة فهمنا للغة وعملها. إذ لا يرى الذين ينطلقون من مُسلّمة أن اللغة نظام مغلق ونهائي (كما تبدو من المنظور الغيبي على الأرجح) أية مشكلة في عملية الترجمة. ستبدو الترجمة من منظورهم عملية نقل آلية لمفردات معجميّة جامدة من نظامٍ لغويٍ معينٍ إلى نظامٍ لغوي آخر. تدعم هذه المسلّمة مسلّمةٌ ضمنيّة أخرى مفادها أن لكل مفردة في لغة الرسالة الأصل مكافئا يطابقها تماماً في اللغة المنقول إليها. تسقط بوجود هاتين المسلّمتين أية أهمية للحديث في موضوع الترجمة أو على الأقل تُختصر الترجمة إلى تصنيفها باعتبارها حقلا جانبيا ليس جديرا بالبحث والتساؤل ولا يستوفي شروط الاستقلال كحقل للدراسات الأكاديمية. هذا بالضبط ما حدث على مدى قرون ومع سيادة الفهم الكلاسيكي للغة وطبيعة عملها. وهذا أيضا ما يبرر للبعض ايمانهم الساذج بأن الترجمة الآلية وافية وفعالّة في هذه المرحلة من التاريخ على الأقل ومع ترجمات صارت اليوم شائعة عبر الانترنيت بأخطائها الكارثية. لا يمكن رغم هذا إغفال الإشارات اللامعة- التي وردت عبر التاريخ في لغات وثقافات مختلفة واجهت ضرورة الترجمة ومارستها ومنها العربية تحديدا- إلى إشكاليات الترجمة وثنائية الترجمة الحرفية من جهة والترجمة بتصرف من الجهة الأخرى. لكن تلك الإشارات ظلتّ في إطار تقليدي لا تدّعي- ولا تطمح إلى- أن تكون نظرية.
الذين يرون في الترجمة مشكلة وحقلا أكاديميا مهما هم الذين يدركون أن اللغة ليست نظاما مغلقا وأن القول بأنَّ لكل مفردة في نص ما مكافئا مطابقا في اللغة الأخرى ليس دقيقاً في كلّ الأحوال.
الكلمة العربية (ترجمة) تحتوي على معنيين؛ الأول هو الإيضاح والتفسير كما ترد في لسان العرب حيث أن الترجمان هو المفسّر للسان والمعنى الثاني هو تدوين السيرة الشخصية فترجمة فلان هي ذكر تاريخ حياته. الفعل في العربية كما نرى ليس مركبا كما هو في الإنجليزية مثلا أو في أصله اللاتيني. يستخدم ابن عربي على سبيل المثال لا الحصر مفردة الترجمة في «الفتوحات المكيّة» بمعنى التفسير والتبيين. أمّا الترجمة التي ترد بمعنى تأويل الإشارات الكلاميّة باستخدام إشارات كلاميّة تنتمي إلى نظام لغوي آخر، فنجدها في الإشارات الذكية للجاحظ وكلامه عن ترجمة الشعر العربي في كتابه (الحيوان) حيث يقول في حديثه عن صعوبة ترجمة الشعر العربي:
(وقد نُقِلت كتبُ الهند وتُرجمتْ حكم اليونانيّة وحُوِّلت آدابُ الفرس فبعضها ازدادَ حُسنًا وبعضها ما انتقص شيئًا ولو حوّلت حكمة العرب لبطل ذلك المعجزُ الذي هو الوزن مع أنَّهم لو حوَّلوها لم يجدوا في معانيها شيئًا لم تذكرْه العجم في كتبهم التي وضعت لمعاشهم وفِطَنهم وحِكمَهم وقد نُقِلت هذه الكتبُ من أمَّةٍ إلى أمّة ومن َقرن إلى قرن ومِن لسانٍ إلى لسان حتى انتهت إلينا وكنَّا آخرَ مَنْ ورثها ونظَر فيها فقد صحَّ َأنَّ الكتبَ أبلغ في تقييدِ المآثِر من البُنيان والشعر .ثم قال بعضُ مَنْ ينصر الشعر ويحوطه ويحتجُّ له : إنَّ التَّرجُمان لا يؤدِّي أبدًا ما قال الحكيمُ على خصائِص معانيه وحقائق مذاهِبه ودقائق اختصاراته وخفيَّاتِ حدوده).
من ناحية أخرى فإن ايتمولوجيا كلمة الترجمان في اللغة الإنجليزية (Translator) مشتقة من الفعل اللاتيني (Transfero) المركّب من السابقة Trans- والفعل -fero والتي تعني أن ينقل من مكان إلى آخر أو ينسخ. وفي مقابلات المفردة ذاتها في اللغات ذوات الأصل اللاتينية يكون معنى الكلمة أقرب إلى عمل التاجر فالترجمان هو التاجر الذي ينقل بضاعة الأفكار من لغة إلى أخرى وتتضمّن عملية النقل هذه أو المتاجرة على شيء من المساومة أو ربما التحريف. ولذا فان فكرة خيانة المترجم تنطلق من تشابه لفظي متجذّر في اللاتينية. جذر كلمة الترجمة في اللاتينية (Traducere) يكوّن أيضا أساس الفعل (To traduce) في اللغة الإنجليزية أي أن يقدح أو يطعن أو يشوه سمعة شخص ما وهذا ما ينوّه عن أن فعل الترجمة لا يقتصر على نقل الكلام من نظام لغوي ما إلى نظام لغوي آخر بل وعلى تحريف الأصل. هكذا نجد أن القول الإيطالي المأثور (Traduttor, Traditor) أو كما يعرّب (أيها المترجم أيها الخائن) يمثل الإشارة الى مفارقة التشابه اللفظي وليس إلى حقيقة مدعومة بالأدلة أوحكم منطقي كما يظن البعض.
الذين يرون في الترجمة مشكلة وحقلا أكاديميا مهما هم الذين يدركون أن اللغة ليست نظاما مغلقا وأن القول بأنَّ لكل مفردة في نص ما مكافئا مطابقا في اللغة الأخرى ليس دقيقاً في كلّ الأحوال. يستند القائلون بإمكانية الترجمة إلى الاعتقاد بوجود قواعد كونية تحكم اللغات البشرية كلّها، إذ لا بد على سبيل المثال من أن يكون هناك وحدات نحوية تمثّل الفعل والفاعل والمفعول به وما غير ذلك من الوحدات الأخرى التي تكوّن الكلام في أية لغة بشرية معروفة. القواعد الكونية للغة مغروسة في العقل البشري. يرى ناعوم تشومسكي أن اللغة هذه الملكة البشرية جهازا مكوّن من أعضاء عدّة (الدماغ والسمع والنطق) مثلها مثل الجهاز التنفسي أو الجهاز الهضمي كامنة في التكوين البيولوجي للإنسان. لكن، هل يعني هذا أن اختلاف اللغات فرعيٌّ وتشابهها جوهري؟
لا نظن أن الجواب على هذا السؤال كان سهلا فالأمر ليس بهذه البساطة. لنعد الى الوراء بسطور قلائل. قلت لا بد أن يكون هناك (فعل وفاعل ومفعول به). كتبت هذا حسب النسق النحوي السائد في العربية. لكن النسق ليس نفسه في كل اللغات، إذ ينقلب ترتيبه في الإنكليزية في الوضع الطبيعي إلى (فاعل وفعل ومفعول به) وينقلب ترتيبه مرة أخرى في الفارسية إلى (فاعل ومفعول به وفعل). قد يبدو هذا الاختلاف في النسق النحوي وتبدل مراكز الوحدات النحوية في كل نظام من الأنظمة اللغوية الثلاثة المشار إليها، طفيفا ولكن إذا تفحصّناه جيدا نرى أنه ينطوي على اختلاف عميق في إدراك وطريقة وصف العالم و(خرطنته) بمعنى وضع خارطة له وترتيب مواقع الأهمية فيه .
كاتب عراقي
هل يسمح لنا المنبر برسم بعض الكلمات كاسكر زيادة شكرا فاكلمة اللغة تعني كل اللغات واللهجات كدالك فاالترجمة بدورها تعني الكثير وان دل هد ا على شيء فأنما يدل على أن اللغة العربية بحر لاشاطئ له فمن حسن حظ هده الكلمة أن كثيرا من لاقلام المتميزة قالت كلمتها عنها لكن أختلاف في لاساليب فهي ليست سهلة يمكن أيا كان الدخول لعالمها صعب المنال ونقول أيضا وعن الترجمة تحويل الكلمة لمعناها الحقيقي لازيادة ولا نقوص ان الترجمة فن من الفنون