أثار المرسوم رقم 16 الذي أصدره النظام بخصوص تنظيم شؤون وزارة الأوقاف ومهماتها، عاصفة من الانتقادات في البيئات الموالية، فيما يذكِّر بعاصفة مشابهة أثارها مشروع قانون أحوال شخصية، تم تسريبه ولم يصدر، قبل بضع سنوات من بداية الثورة السورية. ففي ذلك الحين، كما اليوم، صدرت الاعتراضات الصاخبة من مواقع تدعي «العلمانية» في حين أنها كانت في حقيقتها طائفية مناهضة للدين الرسمي الذي هو «الإسلام السني»، وليس لـ«دولة دينية» بالمطلق.
لكن النسخة الجديدة من «الاعتراض العلماني» الصاخب، الطائفي أيضاً في أساسه، تنبع من مرارة أشد من مرارة الجولة السابقة، لأن المرسوم الجديد جاء بعد سنوات دامية من الصراع الذي تم تصويره على أنه صراع ضد «إرهاب تكفيري» («صهيو ـ وهابي»، حسب تعبير بعض أشد العلمانيين الطائفيين غلاً وغلواً ضد الثورة، وأشدهم منافحة عن النظام الكيماوي المجرم) صراع بأكلاف باهظة أدت إلى مقتل نحو مليون سوري وفرار سبعة ملايين إلى بلدان اللجوء، وتشريد ملايين أخرى، ومئات آلاف المختفين قسرياً وملايين المعطوبين واليتامى، مع دمار نصف العمران، وانهيار الاقتصاد والخدمات الأساسية، واستحضار جيوش عدة دول أجنبية ومجموعات مسلحة من مختلف الجنسيات…
فقد كان مثقفون طائفيون متسترون بيافطات العلمانية والوطنية والممانعة، يعملون بطاقتهم القصوى، طوال السنوات السبع الماضية، لتكريس قصتهم الخاصة لما حدث في سوريا وكأنها الحقيقة التي لا تقبل أي حقائق أخرى بجانبها. ومفادها أن ما سمي بالثورة إنما كانت مؤامرة متعددة الرؤوس، أمريكية ـ إسرائيلية ـ فرنسية ـ بريطانية ـ سعودية ـ قطرية ـ تركية، هدفها تدمير سوريا وإلحاقها كدولة تابعة بالولايات المتحدة، خدمةً لإسرائيل، وذلك من خلال إنشاء دولة إسلامية سلفية ـ تكفيرية تقضي على «التنوع الحضاري» المميز لسوريا ـ حسب تعبير أحد كتَّاب هذا التيار ـ أو لإبادة الأقليات وفقاً لفتوى ابن تيمية، في تعبيرات أقل مواربة. وتكتمل هذه «القصة» بأهزوجة أن المؤامرة المذكورة قد انتهت إلى هزيمة تامة، وانتصر عليها «الجيش العربي السوري» (كذا!) على ما درجت بعض الكتابات الأشد سماجة وابتذالاً في التعبير عن انحياز أصحابها إلى النظام الكيماوي البراميلي.
الانقسامات حول قضايا العلمانية والإسلام، والوطنية والطائفية، وغيرها ليست أقل حدة من الانقسام حول الموقف من النظام السوري
وتنبع المرارة الأشد لهؤلاء من أن كل التضحيات الجسام من قتلى الجيش والشبيحة والمدنيين الموالين، وكل هذا الدمار والخسائر المادية في سبيل قطع الطريق على التكفيريين ومن يقف وراءهم من «عربان» وأمريكيين وصهاينة، وكل الجهود من أجل التغيير الديموغرافي للتركيبة السكانية «المختلة» لصالح «البيئة الاجتماعية الحاضنة للإرهاب»، باتجاه خلق «مجتمع متجانس» خال من التكفيريين، و«الاضطرار» للاستعانة بجيوش حليفة من روسيا وإيران والميليشيات الشيعية متعددة الجنسية… أقول إذن إن كل تلك «التضحيات» قد شطب عليها بشار الأسد بجرة قلم، حين أصدر هذا المرسوم الذي يمنح وزارة الأوقاف (وكادرها من التكفيريين جينياً فقط لأنهم سنة) صلاحيات واسعة. فجن جنون أولئك المؤيدين الحالمين بدولة «علمانية» أي ضد الدين الإسلامي السني، وبلغت بهم «الجرأة» حد التطاول على أبو العلمانية وأسلحة الدمار الشامل، من كيماوي وبراميل وشبيحة: بشار الأسد.
بخلاف مظاهر «اعتراض» اجتماعي سابقة في البيئة الموالية، كاعتراض طلاب جامعيين على إلغاء الدورة التكميلية، أو ثورات غضب موضعية في جنازات قتلى الجيش الأسدي، أو مطالبات مؤيدي النظام بإقالة محافظ حمص، تبدو حركة الاعتراض الحالية على المرسوم 16 بمثابة «يمين متطرف» يزاود على النظام في حربهما على العدو. ففي حين لا يستطيع النظام تجاوز بنية التركيبة السكانية التي يشكل فيها السنة أغلبية ثابتة، برغم كل المجازر والتهجيرات التي حدثت، وهو مرغم على استتباع ممثلين لتلك الأكثرية الاجتماعية كإسسوار لا بد منه، واستمرار التعامل مع التأويل السني للإسلام بوصفه «الدين الرسمي للدولة»، بلغت المخيلة الإجرامية بالمعترضين على القانون 16 أن «يحلموا» بإفراغ سوريا من أكثريتها المذهبية، بصورة تامة أو جزئية، وضرب الأساس الثقافي لهذا المذهب، أو «تطهير» الحياة العامة من مظاهره. فبعض المعترضين، مثلاً، دعوا صراحة إلى أن تمتنع «الدولة» عن ترميم الجوامع التي قامت بتدميرها أثناء المعارك، الأمر الذي يعني أن تدمير ما بقي من جوامع قد يدغدغ أحلامهم المريضة.
نقطتان جديرتان بالإشارة إليها في الختام. الأولى أن المرسوم موضوع الجدل لا يتضمن أي محاباة للمذهب السني أو ممثليه أو مؤسساته، بقدر ما يجعلها خاضعة أكثر من السابق للسيطرة والمراقبة الأمنيتين، بل يقترح عليها وظائف أمنية وأيديولوجية صريحة في «محاربة الإرهاب التكفيري».
والثانية هي أن بعض معارضي النظام وجدوا أنفسهم في صف واحد مع «يمين النظام المتطرف» في موقفهم من المرسوم 16، من منطلق تشديدهم على العلمانية ومناهضة الإسلام السياسي.
هذه المفارقة الأخيرة هي مؤشر إضافي على أن بعض القضايا التي تقسم السوريين تخترق الانقسام العام الذي بدا، لوهلة، أنه هو الناظم لكل الاصطفافات، أعني بين مؤيدي النظام ومعارضيه. فالانقسامات الأخرى حول قضايا العلمانية والإسلام، والوطنية والطائفية، والعرب والكرد، والداخل والخارج، والريف والمدينة… وغيرها ليست أقل فاعلية وحدة من الانقسام حول الموقف من النظام. وهذا ما امتنع بسببه قيام إجماع وطني حول الثورة، مما شكل أحد أهم أسباب هزيمتها.
٭ كاتب سوري