عن المعركة الصليبية لأجل الديمقراطية

في ذروة غضبه عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر أعلن الرئيس جورج بوش الابن بدء ما سماها «الحملة الصليبية» ضد الإرهاب. خلق هذا التعبير آنذاك تشويشاً لدى الذين لا يحملون ذكريات تاريخية طيبة مع المصطلح، الذين اعتبروا أن الأمر بهذا الإعلان يتجاوز الحرب المجردة على تنظيم «القاعدة» وغيره من التنظيمات الإرهابية المهددة للغرب إلى الحرب على الإسلام والمسلمين.
حينها تبرع البعض بالدفاع عن الرئيس الأمريكي، معتبرين أن تصريحه تم تفريغه من سياقه، وأن تعبير «الحرب الصليبية» مثل تعبير «الجهاد» عند المسلمين، الذي قد يعني الحرب المقدسة ضد الأعداء والكفار، لكنه يعني أيضاً معاني أكثر بساطة من قبيل جهاد النفس، أو بذل الجهد لتحقيق أي هدف.
كان يمكن لمنطق المثاقفة اللغوية هذا أن يكون مقنعاً، وأن يؤكد أن ما تفوه به جورج بوش لم يعد أن يكون زلة لسان، خاصة أنه ما لبث أن اعتذر معتبراً أن استخدام تلك الكلمة لم يكن موفقاً، لكن الطريقة التي تم بها تنفيذ «الحملة على الإرهاب» والتي أنتجت غزواً همجياً لكل من العراق وأفغانستان وتعقيداً لحياة الملايين من المسلمين حول العالم، من الذين حاصرتهم الشكوك والنظرات التمييزية والمعادية، كل ذلك كان يعيد إلى الأذهان عبارة «الحرب الصليبية». بالمقابل، وبالنسبة للتنظيمات التي تبنت الجهاد العالمي المفتوح، كان التوصيف يقدم حافزاً جديداً وتأكيداً على أنها تخوض المعركة الصحيحة ضد العدو الصحيح وهو ما لخصه منطق تنظيم «الدولة الإسلامية» الذي ألغى الفوارق بين المقاتلين والمسالمين على طريقة: إنهم يستهدفوننا جميعاً، ويجب أن نستهدفهم جميعاً.
تزامن مع حملة بوش حملات شيطنة عالمية موازية للدين الإسلامي الذي وصف بأنه معادٍ للقيم الغربية وعلى رأسها الديمقراطية، لتجد الأحزاب اليمينية الأوروبية التي كانت لا تجرؤ على قول رأيها صراحة فيما يتعلق بالوجود الإسلامي، الشجاعة أخيراً للتعبير عن رأيها، متحججة بضرورة حفظ مجتمعاتها من خطر الإرهاب. كان من نتائج «صراع الحضارات» هذا نزوع الكثير من أبناء المسلمين للتطرف وللنفور من المجتمع، الذي أحسوا أنه يستهدفهم ويعاديهم، وهو ما ظهر في السهولة التي استطاعت بها «الدولة الإسلامية» استقطاب أعداد كبيرة من الشباب الذين اعتبروا أنها ستكون أكثر ترحيباً بهم من ديارهم الأوروبية. بجانب الوجه العسكري واستخدام القوة المفرطة من أجل تغيير النظام في كل من العراق وأفغانستان، وهما البلدان اللذان كانت تنظر لهما الولايات المتحدة بعداء، حتى قبل أحداث سبتمبر، كان هناك وجه آخر للحملة تمثل في مساعي مخاطبة العقول والقلوب، وإقناعها بأن ما تم كان لمصلحة الشعوب التواقة للحرية والديمقراطية. فيما يتعلق بالعالم الإسلامي كانت الرسالة هي الترحيب بالإسلام طالما كان معتدلاً، أما حدود هذا الاعتدال وتعريفاته فهو أمر متروك للأمريكيين، فكل ما لا يصب في خط المصلحة الأمريكية هو بالضرورة متطرف بنظرهم.

الدول المركزية لم تتدخل لتقف مع الشعوب في اللحظات التي احتاجت فيها إليها، وإنما مع الجانب الذي تشعر بأن بإمكانه أن يضمن مصالحها

الحملة الصليبية كانت، في أحد تعريفاتها، حملة لأجل الديمقراطية، تقودها «الديمقراطيات الكبيرة» ضد دول الاستبداد، وحسب مقال نشره نهاية العام الماضي أندرس فوغ راسموسن الأمين العام السابق لحلف شمال الأطلسي في «وول ستريت جورنال» فإن هذه يجب أن تكون مهمة الحلف أيضاً، الذي يجب عليه أن ينتقل من مرحلة استهداف الدول الأضعف إلى مستوى الدول الأكثر قوة. تعليقاً على مقال راسموسن الذي وجه سهام الاستهداف بشكل مباشر إلى روسيا والصين، كتب الصحافي الفرنسي سيرجي هاليمي في عدد يناير من صحيفة «لوموند دبلوماتيك» مقالاً تحت عنوان: «من هو عدونا القادم؟» اعتبر فيه أن تصريحات الرئيس المنتخب جو بايدن توحي بأن الولايات المتحدة عازمة على استعادة «الحرب الصليبية لأجل الديمقراطية» التي ستقود فيها بقية العالم. يقول هاليمي إن العدو الأول والرئيس للديمقراطيين الأمريكيين هو روسيا، أما الصين، فلطالما اعتبر الجمهوريون أن هناك مصالح تجمع بايدن بها، فمن المعروف أن ابنه هنتر أنشأ فيها مشروعات اقتصادية كبيرة. تلك نقطة ما كان بالإمكان تفويتها إبان التنافس الانتخابي. هذا التنافس والمشاكسة الحزبية بين الطرفين السياسيين الأمريكيين قد يكون لهما دور في تحديد مستقبل العلاقة مع هذين البلدين، فمثلما استهلك الديمقراطيون وبشكل كبير نظرية العلاقة الخاصة التي تجمع ترامب بروسيا وبالرئيس فلاديمير بوتين من أجل إضعافه وإظهاره بمظهر الخائن، فإن بإمكان الجمهوريين أيضاً أن يلعبوا على وتر العدو الصيني، بالتركيز على علاقة الرئيس بايدن الخاصة ببكين، والقول بتغليبه المصلحة الخاصة على المصلحة الوطنية. ختم هاليمي مقاله بدون أن يقدم إجابة لسؤاله، فكما قال تظل روسيا العدو الأول لكثير من الأمريكيين، وعلى رأسهم الديمقراطيون، لكن بالمقابل فإن الكثيرين ينظرون إلى الصين كخطر داهم يجب تحجيمه.
على الجانب الأمريكي يتسلم الرئيس جو بايدن الحكم بالتزامن مع الذكرى العاشرة لاندلاع ثورات الربيع العربي. اليوم، وبينما لا يزال هناك من يتجادلون حول ما إذا كانت حدثاً تاريخياً عفوياً أم محض مؤامرة، فإن الأكيد هو أن هذه الاحتجاجات، ورغم ما أدت إليه من تغييرات، لم تستطع أن تحقق تطلعات شعوب المنطقة، في الوقت الذي حافظت فيه بشكل كبير على مصالح دول المركز، على تفاوت لا ينكر بينها في ذلك.
موقف الدول المركزية الأكثر تأثيرًا في القرار العالمي من تلك الأحداث يصلح كمثال على براغماتية هذه الحملة الصليبية لأجل الديمقراطية، فهذه الدول لم تتدخل لتقف مع الشعوب في اللحظات التي احتاجت فيها إليها، ولما تدخلت وساندت لاحقاً بعد طول تفكير وتردد، فإنها كانت تتدخل لتقف ليس بالضرورة مع الجانب الصحيح، وإنما مع الجانب الذي تشعر بأن بإمكانه أن يضمن مصالحها بشكل أقوى. بجانب هذه الذكرى التاريخية تسلم بايدن الحكم بالتزامن مع تظاهرات فريدة من نوعها على الساحة الروسية، ففي أكثر من ستين مدينة خرج الناس للشوارع منددين بحكم الرئيس بوتين، ومطالبين بإطلاق سراح الناشط المعارض نافالني الذي نشر على شبكة الإنترنت معلومات حساسة عن فساد الرئيس الروسي والطبقة الحاكمة وهي التظاهرات التي تجددت في عطلة نهاية الأسبوع الماضية للأسبوع الثاني على التوالي. ما يزال الوقت مبكراً لتخمين مستقبل هذه الاحتجاجات، أو على معرفة الموقف النهائي «للديمقراطيات» منها، لكننا لا نشك في أن سقوط الرئيس الروسي سيكون خبراً جيداً بالنسبة لحكام البيت الأبيض الديمقراطيين وغيرهم من الأوروبيين. هل يقود ذلك إلى تدخل، بشكل ما، لدعم الاحتجاجات وصولاً إلى استبدال بوتين وأيديولوجيته السياسية المبنية على معاداة الغرب ببديل سياسي أكثر تصالحاً؟ هذا يعتمد على مسار هذه الاحتجاجات ورؤية الغربيين لطريقة التعامل معها، فربما يرون الاكتفاء باستغلالها لحث الرئيس الروسي على تقديم تنازلات في بعض الملفات، مقابل غض الطرف عن طريقة سيطرته على الأمور.
هناك عامل آخر حاسم ومهم يمكنه أن يؤثر في تطورات الأمور في روسيا، كما أثر في مآلات حركات الاحتجاج العربية، هو المتعلق بمدى تعويل وثقة الناشطين والفاعلين السياسيين هناك بالدول الغربية ومدى تصديقهم لعباراتهم الرنانة المنحازة للديمقراطية، خاصة أن هذه الدول لا تخفي طمعها في الثروات الروسية، ورغبتها في ترويض الدب الأبيض الذي كثيراً ما يفسد عليها رقعة اللعب.
كاتب سوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول د. محمد الفقيه _ ماليزيا:

    من أجود المقالات التي كتبت على صفحة جريدة القدس العربي

إشترك في قائمتنا البريدية