د. عبدالوهاب الأفندي(1) قد يقول قائل إننا نشم رائحة مؤامرة عندما نسمع الصراخ الرسمي السوري والتباكي الروسي حول هجوم مزعوم بالأسلحة الكيماوية على موقع حكومي. فلدى النظام الروسي ضمير اصطناعي، يستيقظ بضغطة زر وينام باقي الوقت. فعندما تتفجر سيارة مفخخة في موقع رسمي، تصرخ روسيا ‘إرهاب!’، وعندما تتفجر سيارة (أو يلقى برميل متفجر) فيموت عشرات الأبرياء من غير الأنصار، يهز وزير الخارجية الروسي كتفيه، أو يتهم الضحايا بأنهم ألقوا القنابل على رؤوسهم. وعندما يقول الثوار إن النظام قصف حمص بالكيماوي تصمت موسكو، ولكنها الآن تستصرخ العالم أن وا أسداه! فروسيا التي تعارض كل تدخل، تطالب الآن بالتدخل، ولكن بشروط تشي بأن وراء الأكمة ما وراءها.(2)ما يدعو للدهشة فعلاً هو هذا الحماس الأممي للتحقيق والتدقيق، كأن ما يحدث في سوريا يخفى على غير أعمى البصيرة. هاهنا يفوق عدد القتلى شهرياً عدد ضحايا برج التجارة العالمي بأكملهم، وتهدم الطائرات والصواريخ كل أسبوع من المباني أضعاف حجم برج التجارة. فلا حاجة لأسلحة كيماوية لقتل السوريين بالجملة، فهناك ‘كيماوي مزدوج’ إسمه حزب البعث الطائفي الذي ما فتىء يقتل ويعذب ويدمر ويجلب التعاسة على الملاين منذ نصف قرن من الزمان. مثل هذا التحقيق هو إما فلسفة عميقة، أشبه بمصباح ديوجين الذي كان يحمله في وضح النهار، أو هو عمىً من نوع جديد. (3)الروس أيضاً قادوا مأتم المتباكين على خرق المواثيق الدولية والعربية بتسليم مقعد سوريا في الجامعة للمعارضة، وتبعهم في ذلك عرب وعجم من العراق وغيره. ولو صدقنا حجج هؤلاء لكان الأولى أن يمثل فلسطين في القمة بنيامين ننتياهو، لا محمود عباس زعيم ‘ائتلاف المعارضة الفلسطينية’ (هذا مع العلم بأنه عباس هو أقرب لجورج صبرا من معاذ الخطيب، لأنه لا يمثل كل ‘المعارضة’). بنفس المنطق كان ينبغي أن يرأس قمة بغداد الجنرال بترايوس لا جلال طالباني، رد الله غربته. وفي هذه الحالة، فإن تمثيل سوريا كان يجب أن يكون على كل حال بوفد روسي-إيراني مشترك، بينما كان ينبغي أن يمثل أحمدي نجاد العراق في القمة الحالية.(4)ما فتئ الروس وحلفاؤهم في طهران وبكين يذكروننا بالقانون الدولي، ولا يذكرون منه إلا سيادة الدول، رغم أن ميثاق الأمم المتحدة ينص على احترام حقوق الإنسان وحقوق الشعوب، لا حقوق الحكومات. المواثيق تخول بل وتلزم- المجتمع الدولي التدخل لوقف المجازر والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، لأن أكبر خرق للقانون الدولي هو المذابح والتنكيل التي ما قامت الأمم المتحدة إلا للتصدي لمثلها، وليس للدفاع عن بوتين وأمثاله.(5)وبذكر القانون فإن المهازل المصرية ما تزال تتوالى، وكان آخرها حكم القضاء بإعادة تنصيب النائب العام السابق (والذي انتقل سلفاً للعمل في دولة أجنبية) وإلغاء قرار الرئيس بتعيين خلفه. وهناك خطر في أن يتحول القضاء المصري إلى حزب سياسي غير مسجل حين يقحم نفسه في أمور خلافية، إضافة إلى خطر إلغاء مبدأ الفصل بين السلطات، وكلا الأمرين مهدد للديمقراطية. (7)مصر في حالة انتقال دستوري حالياً، مما خلق فراغاً لا يتيح للقضاء أن يجد قاعدة دستورية صلبة يحتكم إليها. هنا تصبح الأحكام من قبيل الاجتهاد الفردي، مما يستوجب عندها أن يستوحي القضاء المبادئ الأشمل، لا الأمور الإجرائية (وإلا لكان الأولى الحكم بأن خلع حسني مبارك باطل دستورياً). أما بحسب المبادىء الأشمل، فإن النائب العام الحاكم السابق يجب أن يعتقل ويحاكم لدوره كأداة النظام السابق الأبرز لخرق الدستور والتحايل على القانون، والتستر على التعذيب وتلفيق التهم الباطلة للمعارضين الشرفاء، وحماية الفساد والمفسدين. (8)مهما يكن فإن منصب النائب العام في كل الديمقراطيات هو منصب تنفيذي، لأنه يمثل الذراع القانوني للحكومة. وبحسب رأيي فإن الدستور المصري لم يكن موفقاً حين جعل اختياره بيد القضاء، لأن هذا يضر بالفصل بين السلطات. فمهمة النائب العام هي أقرب إلى وظيفة الشرطي منها إلى وظيفة القاضي، لأنه يلاحق مخالفي القانون ويتولى تقييم البينات قبل إحالتهم إلى القضاء. وهو بهذا طرف في النزاع، لا قاضٍ يحكم. وهوالطرف الذي يمثل الشعب ومصالحه، وبالتالي تختاره الحكومة المنتخبة من الشعب، لا أي جهة أخرى. وبنفس القدر فإن انتساب النائب العام للقضاء يضر بعدالة المحاكمة، لأن القضاء هنا يصبح الخصم والحكم تجاه المتهم.(9)ما نشاهده في مصر وسوريا من تمسك بالظواهر والشكليات بدل الجوهر يتحول إلى معضلة كبرى حين يتعلق الأمر بأرواح البشر. فإذا كانت هناك ‘شرعية’ محلية أو دولية لا تقوم إلا بفناء شعب فإنها تفقد كل معنى وأسس. ولكن ما يقلق الإنسان فعلاً هو وجود بشر (ونحن لا نتحدث هنا عن ‘عرب’ أو ‘مسلمين’)، يرون أن هناك قيماً عليا مهما كانت طبيعتها- يمكن أن تحمى بمثل هذا القدر من الوحشية والبربرية التي تخرج من يقارفها أو يركن إلى مقترفها من مصاف البشر وحظيرة الإنسانية.qraqpt