«ولدتُ في السادس من مايو من العام 1856 في فرايبيرغ في مورافيا وهي مدينة صغيرة في تشيكوسلوفاكيا الحالية. والداي كانا يهوديين وأنا أيضا ظللت يهودياً.»
بهذه العبارة بدأ العالم النفسي سيغموند فرويد (1856-1939) مقاله الطويل، الذي حمل عنوان: «حياتي والتحليل النفسي». لم يكن ذكر ديانة العائلة في السطر الأول من سرد فرويد اعتباطياً؛ وهو ما سيتأكد حين يتحدث لاحقاً عن أثر الهوية اليهودية في تكوينه، في أكثر من موضع في الكتاب، خاصة في البداية، حين يذكر تنقل أسلافه منذ القرن الرابع عشر بين البلدان، بسبب الاضطهاد الذي كان يقابله اليهود من قبل السلطات والمجتمع، بين حين وآخر. يذكر فرويد أن السبب ذاته، الاضطهاد، هو ما قاد أسرته للاستقرار أخيراً في النمسا.
معاناة فرويد ظلت مصاحبة له، كما غيره من اليهود، في مختلف مراحل حياته قبل أن يحظى ببعض الاعتراف كعالم موهوب. سيدلل على ذلك بالتمييز والتنمر الذي كان يمارس ضده في المدرسة، رغم تفوقه الدراسي، ويذكر الصعوبات التي واجهته وهو يشق طريقه في المجال الأكاديمي، مخترعاً مدرسة جديدة في الطب النفسي.
لرواية فرويد كثير من المدلولات، فمن ناحية هي تذكّر بحقيقة أن اضطهاد اليهود لم يكن اختراعاً هتلرياً، ولكنه أمر ظل موجوداً بشكل أو بآخر عبر القرون، وإن كان يزداد وينقص حسب تغير الظرف التاريخي والاجتماعي، وحسب الاختلاف في طبيعة البلدان.
من ناحية أخرى فنحن ننتبه إلى حقيقة أن كثيراً من المثقفين اليهود، بمن فيهم معالج نفسي شهير كسيغموند فرويد، كانوا يعانون بشكل ما من عقدة اضطهاد، وأن هذه العقدة كانت من الرسوخ بشكل يجعل تجاوزها صعباً، مهما كان أصحابها يظهرون عدم تدين أو ميل للعلمانية. الانفصال عن الهوية الدينية ظل دائماً مستحيلاً في الحالة اليهودية. وفي حالة فرويد، فإن مما لا شك فيه أنه كانت لتلك العقدة تأثيرات على النظريات التي وضعها، والتي كانت تهدف لتحليل وفهم السلوك الإنساني.
قصة سيغموند فرويد هي أحد الأمثلة التي تجعلنا ننظر إلى النازية بشقها المعادي للوجود اليهودي، لا كحالة فريدة؛ بل كامتداد لتاريخ أوروبي طويل اتسمت فيه العلاقة مع اليهود بكثير من التشكك. تشير شواهد كثيرة إلى أن هذا الامتداد، وكما ظل موجوداً في حقب ما قبل النازية، فإنه لم يختف بشكل تام بعد الزوال الرسمي للنظام الفاشي، أو بعد هزيمة ألمانيا. صحيح أنه توارى قليلا بسن قوانين رادعة واعتبار «معاداة السامية» جرماً، لكنه ظل موجوداً ينتظر الظرف المناسب للعودة وللظهور مرة أخرى.
اليوم، ومع القوة الانتخابية والاحتضان الشعبي الذي تجده أحزاب اليمين، في أكثر من بلد أوروبي؛ فإن المجموعات التي يطلق عليها اسم «النازية الجديدة» وجدت الفرصة مناسبة للكشف عن أهدافها، التي من أبرزها إعادة الاعتبار لأدولف هتلر، الذي يرون أنه كان شخصية وطنية ظلمها التاريخ بسبب تآمر الأعداء.
قصة شعر هتلر وطريقة حديثه وتلويحه بيده والصليب المعقوف كلها أشياء بدأت تعود بشكل تدريجي للشارع الأوروبي، خاصة في البلدان التي احتضنت سابقاً الفكر النازي. هذه الرموز وجنباً إلى جنب مع الشعارات التي تدعو لتحرير ألمانيا، وتمجيد الخطب النازية التي كانت تطالب بتقويض الديمقراطية المخادعة، وتدمير ما يسمى «نظام الاستغلال» وصولاً إلى «دولة عمالية» أو «ألمانيا للألمان»، كل ذلك أصبح شديد المعاصرة الآن، ضمن ما يمكن تسميته بالموجة الثانية للفكر النازي الأوروبي.
كثيرون، خاصة من الأجيال الشابة، يبدون مقتنعين بوجهة النظر التي تحمّل الديمقراطية، وزر المعاناة الاقتصادية والاجتماعية
بالنسبة لكثير من الشباب الأوروبي فإن تحريم النقاش حول سردية محارق اليهود النازية، والاكتفاء بالمحفوظ من الرواية المدرسية، التي تصور اليهود ضحايا لم يعد مقنعاً؛ بل يظهر مقابل ذلك ميل لتصوير أدولف هتلر كزعيم أخلاقي، حاول أن يحمي ألمانيا من الانحلال وظاهرة الفجور التي كان يتهم اليهود برعايتها، والتكسب من خلالها. بالنسبة لأولئك فإن هتلر كان يسعى لحماية البلاد من الانهيار الاقتصادي، الذي كان المرابون ورجال المال اليهود هم أهم أسبابه. المفارقة أن هذه الدفوعات، التي تبدو معادية لليهود بشكل عنصري، تظل محتفظة بجمهورها، ليس فقط من بين الأوروبيين، ولكن داخل مجتمع اليهود نفسه، فهذا هو الحاخام يارون روفين يؤكد قناعته بأن كل هذه الاتهامات التي توجه لليهود كانت صحيحة، وأن الهولوكست لم يكن سوى عقاب من الله على تمرغ اليهود في الخطايا.
قبل أيام دعا الإسرائيليون قيادات العالم لإحياء الذكرى الخامسة والسبعين لتحرير معسكر أوشفيتز. خلال الحفل الذي حضره، بجانب الزعماء السياسيين، عدد من الناجين، تبادل القادة الغربيون عبارات التضامن، مجددين رفضهم لأي مظاهر «عداء ضد السامية» وهو المصطلح الذي يعنى به اليهود حصراً دون غيرهم. السؤال الذي برز كان عن قدرة هؤلاء القادة الفعلية على حسم حالات الكراهية المتنامية ضد اليهود، التي تقف وراءها قطاعات شعبية واسعة من جهة، وسلطات الاحتلال الصهيونية نفسها بسبب سياساتها وممارساتها التمييزية والوحشية من جهة أخرى.
إبان الموجة الأولى للنازية، كان اليهود هم الحلقة الأضعف، فمن ناحية كان الضمير الشعبي مستعداً للفظهم، ومن ناحية أخرى كان كثير من قياداتهم السياسية مستعداً للتخلي عنهم، إما من أجل إقناعهم بأن القارة الأوروبية لم تعد مكاناً آمناً لهم، بما يشجعهم على الانتقال إلى «وطن جديد»، أو من أجل المتاجرة بقضيتهم والتكسب من خلالها، وهو ما حدث فعلاً متزامناً مع تحول الصهيونية لكيان سياسي. مظاهر العداء لليهود ما تزال حاضرة في الواقع الأوروبي، لكن في موجة النازية المعاصرة ربما تكون الحلقة الأكثر ضعفاً هم العرب والمسلمين، فحينما يتحدث اليمينيون عن الهجرة كأزمة أو عن «تبادل السكان»، فإن الحديث يشير بشكل أساسي للمسلمين دون غيرهم. يرى المتطرفون الشعبويون أن المسلمين يقومون بعملية احتلال ناعمة لبلادهم ممزوجة بعملية «إحلال» تستبدل فيها العناصر العرقية الأصلية بعناصر وافدة. تنتج عن هذا، حسب النظرية النازية، عملية تبادل لمواقع كل من الأقلية والأغلبية. الكابوس الذي تجتمع الأحزاب اليمينية على التحذير منه، يتمثل في تحول هذه الأقلية الوافدة إلى غالبية أو تحولها إلى أقلية مؤثرة قادرة على تغيير هوية الشعب. الديمقراطية كانت العدو الأول للأحزاب الشوفينية، وهو ما يفسر قول ألفريد هوغينبيرغ زعيم حزب العمل القومي الاشتراكي الألماني إن «الديمقراطية، بنظامها البرلماني والحزبي، هي العدو الأول للوطن».
اليوم وبعد قرابة المئة عام على تصريح هوغنبيرغ، أحد أبرز الزعماء التاريخيين لليمين الألماني والأوروبي، فإن كثيرين، خاصة من الأجيال الشابة، يبدون مقتنعين بوجهة النظر التي تحمّل الديمقراطية، وزر المعاناة الاقتصادية والاجتماعية، فالديمقراطية هي من يجبر على تحمل أعداد متزايدة من اللاجئين والمهاجرين، وهي من تمنحهم حقوقاً متساوية مع السكان الأصليين. تهدف الأحزاب اليمينية إلى كسب تعاطف الناشئة وهو ما عمل عليه النازيون في موجتهم الأولى، عبر منظمات كشباب هتلر وغيرها. مع تزايد الأزمة الاقتصادية وارتفاع نسب البطالة يعمل النازيون الجدد على اقناع مزيد من الأنصار بفكرة انقسام الشعب بين طائفتين: طائفة وطنية شعبوية من جهة، ومجموعة من الخونة يعملون ضد مصلحة الوطن عبر الدعوة للديمقراطية وحقوق الإنسان من جهة أخرى.
كاتب سوداني
وماذا نقول للعبيد اللذين يحكموننا على التهم اللتي تكال للإسلاميين والتخويف هاهو مدمر العالم وقاتل خمسين مليون شخص يعود وأين في بلاد الديمقراطية والحرية.