في مقاليها الأخيرين: «جسد للبيع: هكذا حولت الدعاية الفتاة لدمية استهلاكية» و»النسوية الجديدة: كيف وضعت المرأة تحت مذابح السوق» تذكرنا الباحثة مزنة حسناوي بشكل لافت بمنهج إدوارد سعيد الذي كان يحرص على مخاطبة الغرب بلغته وجداله وفق أسلوبه وطريقته. مستفيداً من انفتاحه على عالم الأكاديميا الأمريكية.
كان سعيد يعتمد الإحالة إلى المراجع الغربية المعروفة، والنظريات العالمية المألوفة، وكان يجد بهذه الطريقة قبولاً ليس فقط عند الأوساط الأكاديمية والبحثية في الولايات المتحدة وأوروبا، ولكن أيضاً عند كثير من نخب العالم الثالث. من جهة أخرى تذكّر طريقة تتبع حسناوي لظاهرة بسيطة معتادة، كظاهرة الإعلانات الترويجية وتوظيف النساء فيها، بمنهج الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو وحفرياته المعرفية التي يبدؤها عادة من خلال بعض الأسئلة التي قد تبدو بسيطة.
على طريقة فوكو ستنقلنا حسناوي من مشهد النساء في الإعلانات التجارية، إلى مناقشة القضية النسوية، التي انتقلت بدورها من المطالبة بحقوق بسيطة كالانتخاب والتملك، إلى قضايا مثل، التحرر الجنسي وتغيير مفهوم وتعريفات الأسرة. ستشرح لنا حسناوي كيف يرتبط ذلك كله بخدمة السلطة وكيف سيصب في خدمة طبقة رجال الأعمال. يعرّف الغربيون النسوية كونها مجموعة من الحركات والأفكار السياسية والفلسفية والاجتماعية، التي تشترك في هدف تحقيق المساواة السياسية والاقتصادية والثقافية والشخصية والاجتماعية والقانونية بين الرجال والنساء، لكن المرء يحتاج لكثير من التنقيب حتى يتمكن من الربط بين الأهداف المقبولة لمساواة المرأة بالرجل في الحقوق والواجبات، خاصة بعد دخولها سوق العمل، ونظريات عالم النفس النمساوي صاحب التفسير الجنسي للظواهر الإنسانية سيغموند فرويد، أو من جهة أخرى، نظريات مدرسة شيكاغو الاقتصادية. النسوية لن تكون مجرد دعوة لتمكين المرأة والبحث عن حقوقها في ظل ارتباطها ورعايتها من قبل منظري «الليبرالية الجديدة» الذين سيربطون بين ما يبدو أنه حق أصيل من حقوق المرأة، كالعمل، وهدف تحقيق أكبر قدر من الأرباح، عبر إضافة المرأة لما سيسمى «رأس المال البشري». ولأنه يتوجب على رأس المال، سواء كان بشرياً أو مادياً أن يكون متحركاً دائماً ونشيطاً، فقد كان يجب أن تتم دعوة المرأة للعمل ولتأخير سن الزواج، إن وجد زواج أصلاً، وللاكتفاء بطفل واحد أو طفلين على الأكثر، حتى تتفرغ لتحقيق طموحاتها التي تصب في خدمة طموحات ومصالح أصحاب الأعمال. هذه الحالة من الامتزاج بين حقوق المرأة وتحقيق الخريطة الاقتصادية للمجتمع حسب مفاهيم اقتصاد السوق يطلق عليها اسم «النسوية النيوليبرالية». تضم حسناوي صوتها للطيف الواسع من المثقفين المعارضين للنسوية بوجهها النيوليبرالي. هذا الطيف الذي بات يضم عدداً متزايداً من النساء الغربيات اللواتي يرون أن في الترويج للنسوية خدعة كبيرة واستغلال. هؤلاء النساء تيقنّ من أن القضاء على التمييز في سوق العمل ما يزال هدفاً صعب المنال. وفق الاحصاءات المعتمدة في الدول التي تطرح نفسها كنموذج للحقوق، فإن شروط العمل ما تزال في غالبها قاسية تجاه النساء الحوامل، ما لا يشجع على الحمل أو الإنجاب، أما حالات التحرش فتتزايد نسبتها بشكل مخيف في جميع البيئات المختلطة، بدءاً من الدوائر الحكومية والشركات، ومروراً بالجيش والخدمات العسكرية والمنظمات الأممية.
نقد النسوية لا يمكن فصله عن النقد الموجه للنيوليبرالية التي تتعامل بقسوة مع المجتمع
نقد النسوية لا يمكن فصله عن النقد الموجه للنيوليبرالية التي تتعامل بقسوة مع المجتمع، معتبرة أن من واجب كل شخص أن يعمل وأنه لا مكان في المجتمع للعاجزين أو الفاشلين. وفقاً لهذا، يكون على كل امرأة أن توفّر قوت يومها وأن تضمن مستقبلها بنفسها وباستقلال عن زوجها أو والدها أو أي عائل آخر، فالنيوليبرالية لا تحبذ المساعدات الاجتماعية المجانية، ولا تشجع تلك الروح الإنسانية المبنية على التضامن العائلي، وهو ما جعل هذه المدرسة الاقتصادية تبتكر، أو على الأقل، تدعم إلى حد كبير، ما يسمى بتمكين المرأة، وهو المصطلح الذي يحوي، بحسب تفسير البنك الدولي، دعوة إلى استكمال الاستقلال الاقتصادي والاجتماعي للمرأة.
لقد قدمت حسناوي قراءة جيدة للموضوع من خلال هذين المقالين المشار إليهما، لكن طرح المنظور الغربي، على أهميته، لن يكون كافياً إلا باستحضار واقع الحال في البيئات العربية والإسلامية، ومدى التأثر بالطروحات الغربية. من هنا تتولد تساؤلات حول حقيقة وجود ما يسمى «بالنسوية الإسلامية». من الناحية المنهجية فإن من المهم جداً التفريق بين النسوية في العالم الإسلامي، وما نعرض له هنا من نسوية إسلامية، حيث أنه يحدث في كثير من الأحيان خلط بين المفهومين. الحديث عن النسوية في العالم الإسلامي، قد يرتبط بحقوق المرأة العاملة وبالمناضلات اللواتي كثيراً ما يضرب بهن المثل في هذا المضمار، كالمصرية هدى شعراوي، التي ربطت في عام 1923 بين النضال في سبيل التحرر وقلع الحجاب، أو المعاصرة نوال السعداوي صاحبة الدراسات المتجرئة على الدين والتقاليد، أو المغربية فاطمة المرنيسي، عالمة الاجتماع والناقدة اللاذعة لكتب التراث الفقهي، أو المخرجة إيناس الدغيدي التي ترتبط النسوية عندها بالحق في التحرر الجنسي، أو غيرهن ممن تختلط الأجندة النسوية لديهن بالنضال ضد الإسلام السياسي ورموزه.
أما النسوية الإسلامية فهي الاجتهادات التي تستهدف التوفيق بين دور المرأة، وفق الضوابط الإسلامية ومشاريع الحداثة المستفيدة من التجارب العالمية والإنسانية. هذا التعريف سيخرج عنه كلٌ من نوال السعداوي وفاطمة المرنيسي ومن نهج نهجهما، ليس باعتبار أنهن يقعن خارج النطاق الإسلامي، ولكن لأنهن لم يضفن جديداً سوى محاولات مشوهة لنقل الطرائق الغربية في التفكير. في المقابل، فإن محاولات التنقيب التاريخي عن دور المرأة الاجتماعي والسياسي في السياق الإسلامي قد تشكّل جزءاً من الدراسات النسوية. يمكن هنا أن نمثّل بكتاب أسماء سيد، أستاذة الدراسات الإسلامية في جامعة كاليفورنيا: «المرأة ونقل المعرفة الدينية في الإسلام». في هذه الدراسة الحديثة التي تعتبر نموذجاً للالتفات الموضوعي للدور الأصولي للمرأة، قامت أسماء سيد بتتبع رواية النساء للأحاديث الشريفة خلال العصور الإسلامية وهو ما يضيف بعداً جديداً لصورة المرأة المسلمة. صحيح أن الكتاب يحتاج لمراجعة متخصصين من أجل تحقيق ما ورد فيه من أخبار وحقائق، إلا الخلاصة التي يؤكدها تتمثّل في المكانة المعرفية التي كانت قد وصلت إليها المرأة عبر مساهمتها في إيصال وشرح أشرف وأجل العلوم.
هناك وجهة نظر أخرى معتبرة ترفض استخدام مصطلح النسوية الإسلامية، على اعتبار أن الحركة النسوية إنما تعبّر عن مجموعة قيمية معينة، وأن استخدام هذا المصطلح، حتى إن أضيفت إليه كلمة الإسلام، يعبّر عن اتفاق غير موجود في الواقع بين المنظومتين الغربية والإسلامية، وهذا هو الرأي الذي تذهب إليه الباحثة الأكاديمية أماني أبو الفضل وغيرها. تحديد مجال النسوية الإسلامية يعتبر من التحديات التي تواجه المتطرقين للموضوع، بالنسبة للبعض قد تكون أمينة ودود التي ثارت عاصفة حولها عام 2008 لأنها أمّت مجموعة من المصلين في بريطانيا مثالاً للنضال النسوي الإسلامي، الذي يصل إعطاء المرأة الحق في الإمامة. في المقابل فإن بإمكاننا أن نتساءل إن كان بالإمكان أن تشمل النسوية الإسلامية ظاهرة مثل إلهان عمر عضو الكونغرس الأمريكية، التي قدمت صورة مختلفة عن المرأة المسلمة المتصالحة مع مبادئها وأدوارها المجتمعية.
كاتب سوداني