شطحت عالمة الاجتماع الفرنسية نتالي اينيك في العنوان الذي اختارته لمؤلّفها السجاليّ، الصادر هذا العام، «هل الووكية صنف من التوتاليتاريّة؟» فهل يقتصر الشطح هنا على مبالغة في التعبير أم يطال أساس النقد الحامي الذي وجهته اينيك لمن تصفهم بالمُستيقِظة، أو الووكيين.
فالووكية – من فعل الاستيقاظ بالإنكليزية «تو ويك» و«ووك» «اليقظان» – هي المفردة التي انتشرت في جامعات الولايات المتحدة في العقد الثاني من هذا القرن، لتسم مواقف وتحركات «متيقظة» حيال كل واقعة أو شبهة تمييز نافرة أو مضمرة لاحقة برهط من الأقليات الإثنية أو الدينية أو الجنسية.
واينيك تشدّد على أن «الووكية» كانت توصيفاً لهوية حركية وقد نسبها لأنفسهم الناشطون المحمومون لتعقب أي بادرة تمييز سلبي بحق أي جماعة لاحق بها ضيم أو تهميش اجتماعيين. هذا قبل أن تتحول الووكية من توصيف ذاتي يبثه الناشطون أنفسهم الى تهمة عشوائية يرميها اليمين لرشق اليساريين بها، سواء كانوا «ووكييين» أو لا.
والحال أن اينيك لا تقوم بالجهد الكافي في كتابها السجالي و«الشفهيّ» كي تنأى بنفسها عن واقعة شيوع هذه الكلمة في اليمين المتأبط شرّاً أكثر من كل جماعات «الووك» اليسارية. فالخطاب الشائع يميناً في الغرب اليوم يميل لما معناه أنّه لم يبق لليسار في مرحلة ما بعد بوار الأيديولوجيات وتفرّق «المتن العماليّ» إلا التعلّق بأهداب «أهل الهامش» المنقسمين زرافات ووحداناً، وبالتالي «الووكية» ليست في هذا اليسار بشيء عابر، بل هي، من بعد كساد الأيديولوجيات ومشاريع الهندسة الشاملة للمجتمعات، مآل لهذا اليسار في عصرنا.
يستسهل «أهل اليمين» في أيامنا استخدام شماعة «الووكية». وتزيد هذه السهولة لأن اليسار منقسم رمزياً إلى حد كبير، وإن لم يكن أبداً بشكل مطلق. فمن جهة، تجد المتحمسين للذهنية الووكية – الهوياتية، المتيقظين على مدار الساعة ضد كل تمييز أو تنميط سلبيين بحق واحدة من الجماعات الإثنية أو الدينية أو الجنسية التي تعاني تاريخياً في المجتمعات التي هي موجودة فيه، إنما من دون أي تطلع لاستراتيجية شاملة ورامية إلى «تحويل ثوري يشمل المجتمع بأسره» إذا ما استعدنا عبارة من «مانيفستو» ماركس وأنجلس. بل أن «مجتمع ناشطي الووكية» هؤلاء يمجدون التقاطعية بين القضايا الهوياتية المختلفة، وحتى حين تحضر عندهم المسائل الطبقية الاجتماعية، فهذه تجيء مسكوبة بالقالب الهوياتي نفسه. فاليسار الووكي مثلا تجده يندّد بـ «الطبقيّة» وهذا مختلف بالكلية عن التنديد الماركسي باضطهاد طبقة لطبقة أخرى. التنديد بالطبقيّة يعني التنديد بالتمييز على أساس طبقي، في حين أن الماركسية كانت أخذت على عاتقها تبني هذا التمييز والذهاب به للآخر. التنديد بالطبقية، على غرار التنديد بالذكورية وبالطائفية، هو تسليم بأن الهرمية والاضطهاد الطبقيين لا مهرب منهما، وإنما المبتغى محاربة مظاهر التمييز الخطابي والسلوكي على أساس طبقي.
أما من الجهة المناقضة للوكيين، فأول ما يطالعك غياب الحماسة. الووكيون يتحركون، ينشطون، «على بطّال» أو بلا جدوى أو بتكلّف أو بعشوائية في كثير من الأوقات. أما «غير الووكيين» في اليسار فيعيشون اغتراباً لا يقل ضراوة.
فالنموذج الفرنسي من المواطنية ينطلق من المواطن الفرد وحقوقه وواجباته، بخلاف التصور الأنغلو ـ أمريكي كما تسميه اينيك، الذي يربط السلام الاجتماعي باحترام حقوق وكرامات الجماعات المختلفة
لئن تغرّب الووكيون عن «مبدأ الواقع» واكتفوا منه بملاحقة التواقيع التمييزية بين البشر، فأكثر ما يصيب اليسار «غير الووكي» هو الاغتراب عن الزمن. التعامل مع الزمن الحالي على أنه بالفعل ليس لهم، وأن زمنهم «كان» في الماضي، أو هو «عائد» ولو طال الزمن في المستقبل. لكن ليس الآن وليس هنا. كأنما كتب على اليسار في زمننا أن يكون إما واقعياً في لغة «الهناك» أو أن يكون «هنا» بإدارة الظهر للواقع الشامل على مستوى كل مجتمع أو على مستوى العالم، والتركيز فحسب على جماعات جزئية يصار الى التحزب لها، بل الى ابتداعها حيثما هي تفتقد للوجود السوسيولوجي الفعلي، ويصار من ثم الى تخيل اليوم الرجائي الكبير لتقاطع كل هذه الجماعات مع بعضها البعض بوجه المظالم.
ليست هذه القسمة بين يسار ووكي وبين يسار أنتي ووكي بشاملة ولا هي بهامشية. هي موجودة، بوضوح يقل أو أكثر من بلد الى آخر. هي تتيح بطبيعة الحال لليمين أن يستخدم شماعة الووكية ضد اليسار ككل. فالووكيون بالنسبة الى هذا اليمين هم أناس مصابون بوسواس قهري، لا يكتفون بما هو بائن من مظالم بل يتكلفون التكشيف عنها في ما هو مجازي، ومضمر، وحمّال أوجه، وبمفعول رجعي هوسي يريد إحقاق الحق ليس للأحياء فقط، بل للذين قضوا قبل أجيال غابرة، كمثل مطاردة عبارات مؤذية بحق جماعات بعينها في الكتب المنشورة قبل عقود طويلة بل قبل قرون وطلب تنقيح نصوصها وتشذيبها لتكون موافقة للغة الجديدة العادلة.
وليس الغرض هنا إنكار أن هذا المسلك موجود بالفعل في نماذج غير قليلة، وأنه مسلك يعبّر في نهاية التحليل عن افتقاد اليساريين بشكل عام للرابطة الحية مع مشاريع التحويل الجذرية والشاملة للمجتمع بالشكل الذي كان يعبّر عنه في القرن الماضي من خلال مقولة «عصر الانتقال نحو الاشتراكية» أو ما يعادلها أو يفيض عنها. والغرض أيضاً الإشارة إلى أن ردّ الووكية نفسها الى قالب هذياني أو هلوسي هو استقالة من شروط تفكيكها كظاهرة أو كمجموعة لمحات ممكن التقاطها في عدد من الظواهر والمحطات. تفسير السوسيولوجي بالسيكولوجي فيه الحط من قدر علمي الاجتماع والنفس معاً. التعامل مع اليساري الووكي كما لو كانت مشكلته نفسانية يقول أكثر عن نفسية من يفسر الأمور على هذا النحو. ثم هل أن اليساري الووكي بالفعل موجود طول الوقت؟ هل هناك من يعتنق الووكية في اليسار كما لو كانت عقيدة أو منهاج حياة طول الوقت، أم هي على الأكثر تقليعة؟ عدم احترام تشظي الظاهرة الووكية، هذا لو افترضنا أن الووكية يمكن تعيينها كظاهرة، والشطح نحو تلبيسها جسماً بعينه، ونحواً بعينه، لا يبدو بالمدخل النقدي التفكيكي القادر على الذهاب بعيداً في تفكر ما الووكية، ولماذا هذا الأسلوب في التفكير وفي الفعل يفرض نفسه في اليسار في بدايات هذا القرن؟
ثم أن من يكثرون رمي اليسار كله بالووكية في اليمين تجدهم لا يكتفون بذلك. بل يتحدثون مثلا عن «الماركسية الثقافية» وهذه تجدها بين المحافظين الأمريكيين كما بين المحافظين الهنود. «الماركسية الثقافية» غول وهمي، يريد تصوير جماعات ومجالات ثقافية وفنية بأكملها على أنها واقعة تحت أحابيل أيديولوجية خرافية، لم تعد هي ماركسية القرن الماضي، الرامية الى إبدال هيمنة طبقية بأخرى، بل صارت ترمي الى إبدال أنساق ثقافية معتبرة أساسية لاستقرار وخير المجتمعات بلا-أنساق تفتيتية وتخريبية لهذه المجتمعات. في الهند مثلا، يرمي عتاة اليمين القومي الديني التقدميين من الأكاديميين والمثقفين والفنانين بالماركسية الثقافية لمجرد أنهم تقدميون ليبراليون. حتى حزب المؤتمر، هو محتسب من جماعة الهندوتفا على أنه يدين بالماركسية الثقافية الخرافية هذه.
أين نتالي اينيك من كل هذا؟ جهدت للقول بأن الووكية إن كانت محسوبة على اليسار في أمريكا فهي ليست كذلك في فرنسا، وربطت الأمر بنجاعة النموذج الجمهوري الفرنسي «المتيقظ» (على نحو ووكي نوعاً) ما ضد كل ما يفيد الهوياتية. فالنموذج الفرنسي من المواطنية ينطلق من المواطن الفرد وحقوقه وواجباته، بخلاف التصور الأنغلو-أمريكي كما تسميه اينيك، الذي يربط السلام الاجتماعي باحترام حقوق وكرامات الجماعات المختلفة وإنصافها. تعالج اينيك موضوعها بالإسراف من هذه الثنائية: النموذج الفرنسي في مقابل النموذج الأمريكي. النتيجة من ثم أنها تعامل الووكيين في المجال الأكاديمي الفرنسي كغزاة يعملون في الوقت نفسه لأمركة هذا المجال، وتسريب «العالم الثالث» بعوائده وتقاليده وعنفه اليه. وهذا بالضبط ما يسوغ لاينيك رفع خطورة الووكية الى درجة «التوتاليتارية». بافتراض أنها غزو ثقافي لفرنسا وجامعاتها.
في كتاب اينيك لمحات نقدية في محلها ضد غلاظة وغلو «أهل الووك» وكيف يفرضون أنفسهم كمحتسبين ورقباء حيثما لم يردعهم أحد عن ذلك، وكيف يخرجون الأمور من سياقاتها ومجازاتها ويخلطون بين توصيف ما هو حاصل وبين تقدير ما ينبغي له أن يكون وكيف أن الووكية تفسد جانباً من حقل العلوم الاجتماعية عندما لا تعود ثمة فرضيات للتحري والبحث وإنما السعي منذ البدء لاستثبات يقينيات و«اضطهاديات مزمنة» أو مظلوميات. كل هذا تنقده اينيك بشكل مقنع. لكنها لا ترضى بهذا. تريد إدانة حادة للووكية. وتريد أن تعفي نفسها في الوقت نفسه من احتساب إدانتها تلك على أنها يمينية الطابع. تقول إن مشكلتها مع طرائق وأساليب الووكيين وليس مع مقاصدهم وقضاياهم بحد ذاتها. ما لا تراه هو أن حجم تماثلها مع ما تنتقده يكبر كلما زادت من حدة وضراوة الاتهام ضد الووكيين. أبلسة الووكية تعطّل النقد المسدد لها، على افتراض أنها ظاهرة.
كاتب من لبنان