عدت إلى بغداد بعد غياب دام أكثر من عقد، عدت لأستردَّ الهواء الأول، وأسترجعَ أماكن الطفولة والفتوة والشباب. كنت دائماً في غربتي أستدين من الذكريات بعض الأوقات القديمة، وهأنذا أستعيدها حسياً وبالملموس، أجس الذكرى الغابرة، أراها لم تزل ساخنة وحارة، وقابلة على الاستعادة وارتشاف المزيد منها.
لذة صافية ما بعدها لذة، وأنا أتوغّل في أماكن كنت أشبّ فيها وأدبُّ فتى في اليفاع، أنهب الريح وأغزو المرح والشقاوة والفتنة. ثمة عذابات هناك لكنها تبقى من عذابات العامة، فهوية الفقر كانت مشتركة بين الجميع، ما عدا البعض الذي كان ينعم ببعض من الرغادة، لكنها زالت عنه حالما حلت الحروب، وتساوى الملأ في اقتسام الأوجاع والمحن والسغب.
عدت إلى بغداد التي أعرفها شبراً شبراً وحجارة حجارة، هناك أشياء كثيرة قد تغيّرت، وثمة أحوال ومقامات وأماكن لم تتغير، بفعل عصيانها على التغيير وبفعل صمودها في وجه النوازل، حتى لو كانت حربية وعدوانية وهمجية، كون هذه الأماكن مسكونة بأرواح وقلوب ومهج الناس، فحجارتها مغسولة بدموع القاطنين منذ دهور، في أزقتها وشوارعها وقصباتها. هناك شوارع جديدة ظهرت في المراكز الجديدة، لم يعد هناك مركز واحد في المدينة كأيام السبعينيات، كـ»الباب الشرقي» مثلاً، فاليوم تجد منطقة المنصور مركزا عامرا بالمارة والناس والأسواق والمحلات، وتجد منطقة الكرّادة واليرموك تعج بالمتسوّقين والدكاكين، ومثلهما منطقة القادسية، أما الأماكن المهمة والقديمة سابقاً، التي كانت محل بهاء وضوء ولفت للأنظار مثل شارع الرشيد ومنطقة الميدان وشارع السعدون وشارع أبو نوّاس، فهي الآن مهملة وآيلة إلى التآكل وفي طريقها إلى الاندثار، إذا لم تسارع السلطات والبلديات المسؤولة إلى تدارك الأمر والنظر في أحوالها، كأماكن تاريخية لها ذاكرات وحادثات وتفاصيل تاريخية لا تحصى، إذ هي في نظر العامة من الناس مقامات شبه تراثية، تحمل ما تحمل من تواريخ ومرويّات ومعانٍ وحكايات وذكريات أجيال وأحداث سابقة، وهي بالمعنى الزمني ليست بعيدة أو موغلة في القدم، بل هي تتماهى معنوياً مع تواريخ نشأة بغداد الحديثة منذ عشرينيات القرن الماضي وحتى يومنا هذا.
فمنطقة الميدان تحتاج إلى رعاية كبيرة، أقلّها وضع اليد المرممة عليها، بدءاً من الشارع المعروف بـ «سوق الهرج» في بداية شارع الرشيد حتى نهايته في مطلع شارع الخيام. ففنادق ومحلات وشناشيل شارع الرشيد متآكلة ومنهارة ومتهدّمة الأجزاء والأطراف والحواف، فالفندق والمكان الذي سكنت فيه «كوكب الشرق» أم كلثوم يبدو متداعياً ومنهاراً، وليست هناك يافطات تدل على المكان وتشير إلى من حلّ فيه يوماً. «كعك السيد» اختفى موقعه، ثمة موقع «عصير الحاج زبالة» لم يزل ماثلاً ويعمل. فقط شارع المتنبي امتدت له يد العناية وتضافرت الجهود، ربما بفعل من الناس أو بفعل حكومي، وبفعل الناشطين من أبناء المكان من الكتبيين الرائعين. وحتى شارع المتنبي بات للقادمين والذين يؤمونه ليس كمعلم وشارع يحفظ الكتاب، بل بات شارعاً لبيع الطعام أيضاً. «سوق الهرج» مهمل وآيل إلى النهاية. شارع الرشيد ذاته بات مركزاً زاخراً بالبضاعة الصينية، التي هي نوع آخر من المهملات، تضج فيه ناقلات «التوكتوك» ولكأنك في قندهار أو بلدة هندية. القمامة تملأ الأرصفة وتكاد تعلو تمثال الرصافي، وليس شقيقه ورديفه أبو نواس في أحسن حال منه، فهناك في شارعه وعلى ضفاف نهر دجلة، ترى المتروكات والأزبال والقناني والعلب الفارغة للمشروبات تنافس الشجيرات المتربة والمهملة، لتعلو عليها قامة وشأناً، وكذلك هو تمثال الشاعر العظيم أبو نوّاس، مهمل وعليه فضلات طعام، وكفّه اليمنى مكسورة. لماذا لم ينتبه إلى ذلك أحد من المسؤولين؟ أين هو محافظ بغداد أو مسؤول البلدية من ذلك؟ وإذا كان المسؤول غير مهتم أو منشغلاً بأمور مهمة! فعلى المواطن وابن المدينة والمكان أن يرعى المكان، ويحفظه من النوائب والطارقات، ويُحسن عمل الخير لمكانه، كأن يضع لافتات صغيرة للتوعية بعدم رمي القمامة، ووضع سلال للنفايات، وكتابة التعليق على يافطات ترشد العامة إلى هذا الأمر أو ذاك، كما يفعل مواطنو بلدات عالمية وأوروبية وحتى عربية، فهذه ثقافة مجتمعات وكيانات، فـ»الوطن أحياناً يصاب بالزهايمر وينسى» لكن المواطن وابن المدينة عليه أن يعي هذا الأمر.
في يوم ما ليس بعيداً من هذه الأيام، كان يخرج الآلاف من الشباب للتظاهر ضد السلطة الحالية، أين هم الآن؟ فليخرجوا ويهتموا بمدينتهم ويسعوا إلى تنظيفها وإخراجها برونق مقبول، فبغداد مدينة جميلة وكبيرة ومهمة، فليحسن أبناؤها عمل الخير معها، وتزيينها فهي من أبهى المدن وأكبرها، لماذا نهمل الروح فهي روح الأمكنة كلها؟ وعود إلى الشوارع، عليّ ألا أنسى شارع السعدون، شارع الفنادق ودور السينما والمطاعم والحانات وبعض المقاهي في ما مضى، لكنه الآن شارع كئيب، كونه مهملاً ويعاني مثل إخوته من عدم العناية، ومن الإشاحة التامة بخصوص وضعه الذي لا يسر الماشي، حتى فوق حجارته غير السويّة، والتي تجعل القدم تنزلق أو تتعثر. فدور السينما، والحمد لله، اختفت كلها، بفعل الحداثة الطارئة والتكنولوجيا المتطوّرة. في مصر لم تزل بعض دور السينما تعمل، وفي بيروت أيضاً. قيل لي هناك دور جديدة للسينما تعمل في بغداد ضمن الأسواق الكبرى «المولات» لكن هذه ليست دوراً للسينما، بل هي محلات لترفيه الأولاد في أيام العطل المدرسية. المسارح تكاد تنقرض، لولا اهتمام من لا يزال يؤمن بالقيمة الجمالية العليا للمسرح، وإن وجدت خشبات المسرح، فهي خالية من العروض الجديّة إلا في ما ندر.
ثمة حياة جديدة في منطقة الكرّادة، قرب نصب «قهرمانة» تتمثل بوجود المقاهي الثقافية، التي هي مستراح ودار لقاء للأدباء، والعشرات من الفنانين والكتّاب والروائيين والنقاد والشعراء والباحثين العراقيين. في الكرادة يرتاح المرء للمكان، وللنظافة أيضاً، ثمة مطاعم جديدة وجيّدة، إلى جانبها تقام المقاهي الحضارية التي تتشبه بالمقاهي الغربية. ثمة حضور للمرأة فيها وحضور أيضاً للكِتاب وللسياح، في بلد يشهد الآن أوقاتاً آمنة ونوعاً من الاستقرار. لقد تعب الناس من الحروب وساعات الدمار وتعب من الكراهية، الكراهية بمفهومها الواسع، كراهية الآخر الأجنبي، أو كراهية ابن بلدك على دينه أو مذهبه ومواقفه السياسية. الناس في العراق تريد أن تعيش حياتها، أسوة ببقية بلدان العالم، فالعراق بلد غني، بالمال والثروات البشرية والروحية والمادية، فلماذا التنازع والقتال والحروب؟ صحيح أن هناك قوى عليا تفرض إراداتها هذه بالقوة على بعض البلدان، مثيرة من خلال ذلك الضغائن والنعَرات والمشكلات الموروثة، لكنها تفرضها على البلدان الفقيرة، تلك المحكومة من قبل غيرها، البلدان المحتلة والضعيفة والمديونة، وكذلك الخالية من النِعم الإلهية، فالعراق بلاد غمرها الله بكل ما تتشهى وتريد، فلنبارك هذه النعمة ونقدّسها ونحميها.
شاعر وكاتب عراقي