(أثناء كتابة هذا المقال، جاء خبر محاولة اغتيال دونالد ترامب في تظاهرة انتخابية في بنسيلفانيا، من قبل شاب جمهوري في العشرين من عمره، كان قد تبرّع بخمسة عشر دولاراً لصندوق يساري ليبرالي قبل ثلاث سنوات، حين كان لم يبلغ سنّ الرشد بعد. وقد نجا ترامب، ولم يُصب إلّا بخدش بسيط في أذنه، وحسب… سوف تغيّر هذه الحادثة والتحقيقات اللاحقة المشهد والصراع، إلّا أن ما ورد أدناه يبقى وارداً!).
قد يكون العرب من أكثر الأمم تكتّماً على ما يرغبون فيه بالفعل. ينطبق هذا على مواقف الدول العربية من الحرب الأوكرانية، وكذلك من احتمال إعادة انتخاب دونالد ترامب لولاية أخرى في الخريف القريب المقبل. كثيرون يفعلون ذلك في مواسم الانتخابات، ويتفاقم الأمر حين تكون مواضيع المعركة الانتخابية حامية كما هي الآن، إذ تتعلّق كثيراً بما هو ذاتي وبأمور السياسة الداخلية، وتتوارى عناوين السياسة الخارجية، لقلّة اهتمام الناخبين بها أساساً.
نحن والعالم نهتمّ بتلك السياسة واحتمالات تغييرها أكثر، ولا صوت لنا لندعم من اتّجاهاتها ما نريد. صعوبة التقدير حالياً تتعلّق بطبيعة ترامب، التي تبدو كأنّها مزاجية أو آنية أو متقلّبة، فهو يرفع شعار» لنجعل أمريكا عظيمة من جديد»، لكنّه يريد تحقيق ذلك بالانكفاء على الذات، وتغيير الاتّجاهات بشكل مفاجئ، والعودة بقوة أكبر لسياسات استثمار التقدم العسكري والتكنولوجي والمالي في الحقل السياسي. يمكن استعراض بعض مسائل السياسة الخارجية لترامب ومميّزاتها واحتمالاتها في ما يلي، مع أنه يتنافس للفوز بولاية أخرى لمواصلة سياساته «أمريكا أولا»، وهي التي تمثل خروجا ملحوظا عن الإدارات الرئاسية الديمقراطية والجمهورية السابقة معاً..
كان وما زال اهتمام إدارة ترامب بالصين والصراع معها متميّزاً، من الناحيتين التجارية والاستراتيجية. وقد سعى ترامب إلى مواجهة الصين بشأن ما يقول إنها مجموعة من الانتهاكات الاقتصادية: سرقة الملكية الفكرية، والتلاعب بالعملة، وإعانات التصدير وغيرها من أشكال الدعم، والتجسس الاقتصادي. ويقول إن هناك حاجة إلى اتخاذ إجراءات صارمة لحماية العمال الأمريكيين، وتقليص العجز التجاري الكبير للولايات المتحدة. كما رفع الرسوم على منتجاتها بشكل كبير، وبدأ بما يشبه الحرب التجارية الفعلية معها. وهو يعد بمضاعفة تلك الرسوم ثلاث مرات إذا أعيد انتخابه. كما قال إنه سيلغي وضعها كدولة أولى بالرعاية، ويتبنّى خطة تستغرق أربع سنوات للتخلّص من الاعتماد على سلع صينية أساسية.
وفيما يخص الشأن الاستراتيجي والأمني، كان ترامب أول رئيس يلتقي بمسلمي الأيغور، ويتحدّث مباشرة مع الرئيس التايواني، وهو يعتبر السباق في حقل الذكاء الصناعي سباق تسلّح مع الصين، بالتوازي مع حربه على شركات الاستثمار فيه وعلى عمالقة وادي السيليكون، باعتبارهم معادين له وللمحافظين عموماً من الناحية السياسية.
استطاعت حرب غزة أن تخلق وضعاً جديداً، يمكنه أن يعيد تعريف وتحديد أزمة الشرق الأوسط، ولم تبق كما تركها ترامب – وكوشنر- عندما أنهى ولايته الأولى
كرئيس، قام ترامب بزيادة الإنفاق الدفاعي بشكل كبير، وأنشأ فرعا منفصلاً للقوات المسلحة لمعالجة المنافسة الفضائية. كما أعاد توجيه استراتيجية الأمن القومي والدفاع للولايات المتحدة، للتركيز على منافسة القوى العظمى مع الصين وروسيا، واستفز الحلفاء الأوروبيين من خلال التهديد بالتخلي عن تحالف الدفاع المشترك، الذي يعود إلى حقبة الحرب الباردة، وإعادة النظر في حلف شمال الأطلسي، وحسبما قيل فإنه قال لكبار المسؤولين الأوروبيين في عام 2020 إن «الناتو قد مات»، وهو يذكر كذلك أنه إذا أعيد انتخابه فسيبني درعا دفاعيا صاروخيا وطنيا. ترتبط السياسات الدفاعية والأمنية المحتملة مع ترامب بقوة وبشكل مباشر بما يمكن أن يجري من تعديلات على سياق روسيا وأوكرانيا. وكذلك في منطقتنا العربية أو الشرق الأوسط عموماً. يزعم ترامب أنه يستطيع إنهاء الحرب الروسية على أوكرانيا بسرعة، على الرغم من استنكاره لشروط بوتين المعروفة. لكنّه من جهة أخرى؛ ورغم كلامه عن دعمه للأوكرانيين أحياناً، وعن عدم استعداده للالتزام بالدعم بدلاً من الأوروبيين؛ أصحاب المشكلة كما يراها، يركّز على تقصير الأوروبيين، ويظهر المهمة وكأنّها مهمّتهم ومشكلتهم بشكل خاص. هذا مصدر لمشكلة في الوضع الدولي قد تزيده تأزّماً فوق أزمته.
ربّما كان ترامب يعتمد على» صداقته» الحميمة مع بوتين، وفهمه من خلال مهنته الأساسية – خارج السياسة- لآليّات تشغيل الآخرين ومساومتهم بلغتهم. وربّما يكون عليه أسهل مما على غيره التضحية بما لا يملكه، كالحقوق الأوكرانية مثلاً في الأرض والسيادة. وهو لن يعاني كما يعاني الأوروبيون من تأجّج النيران الروسية قربهم، بل سيجعلهم ذلك أكثر طواعية وتلبية لمتطلبات السياسة الأمريكية كما يفهمها. ما عرضه بوتين من شروط للسلام تخرق كلّ القوانين والشرائع الدولية، يشبه عملية استدراج عروض لشراء أرض وسيادة في مقابل الأمان، حين اشترط التخلي الأوكراني عن المناطق الأربع، إضافة لما هو» مضمون» من إغلاق ملفّ احتلال جزيرة القرم، وكأنه تحصيل حاصل. هذا ليس بعيداً جداً عن مجال ترامب في تجارة العقارات، على سبيل المثال. رغم ذلك، غير معروف تماماً كيف يمكن أن يتعامل ترامب في حال فوزه مع الهدف الاستراتيجي لروسيا، وهو تأسيس نظام دولي جديد، ليس بعيداً عما كان العالم عليه في زمن الحرب الباردة.
تبقى المسألة العضوية في المنطقة العربية والشرق الأوسط، فسوف يتسبب الموقف الأمريكي عند نجاح ترامب بعكس لاتّجاهات التهدئة مع إيران- دولياً وإقليمياً- ما سيعني تحريك محور الممانعة بعدوانية أكبر، لن يكون لانتخاب رئيس إيراني معتدل، أيّ تأثير مخمّد حقيقي فيها، ما دام المرشد والحرس الثوري وفيلق القدس يقودون السلطة الحقيقية وسياستها الخارجية. من جهة أخرى، ومع غياب جاريد كوشنر عن الأنظار والساحات، وتركه عمله كمستشار شخصي لترامب منذ 2021، وهو مهندس اتفاقات إبراهام، التي أرست قواعد مختلفة في صراعات المنطقة، تجمع – بطريقة ما- العرب وإسرائيل في جهة واحدة في مقابل إيران، وأساساً لحماية النفط وضمان أمن إسرائيل. في الواقع، استطاعت حرب غزة أن تخلق وضعاً جديداً، يمكنه أن يعيد تعريف وتحديد أزمة الشرق الأوسط، ولم تبق كما تركها ترامب – وكوشنر- عندما أنهى ولايته الأولى. قد يواجه وضعاً جديداً، ربّما يعيده إلى خطه الأوّل، حين كان يقدّم الهدايا لإسرائيل واحدة تلو الأخرى وحسب، من تشريع للاستيلاء على الأرض والاستيطان والقدس، حتى استبعاده لحلّ الدولتين والتخفيف من أهميته ومن آفاقه. لدونالد ترامب عناصر أخرى في سياساته الخارجية سوف تكون عوامل للتوتّر وضرب حالة الأمان، كما فعل يوم واجه أزمة كوفيد -19 مثلاً، سوف يعود لينقض اتفاقية المناخ ثانية، وسوف تعود أزمة الهجرة والمهاجرين إلى حرارتها السابقة، بالتلازم مع ارتفاع مستوى العنصرية وأيديولوجيا الرجل الأبيض السامي، ليخلق مشاكل داخلية لن تستطيع التخفيف منها تلك الإجراءات العابرة التي يلتزم بها أحياناً، لشراء رضا بعض الأقلّيات ودعمهم، كما فعل مع الجماعة اللاتينية مثلاً.
في السياسات الخارجية التي تهمّ العالم مباشرة، كانت» زلّات لسان» دونالد ترامب تبعث على القشعريرة دائماً، لأنّها بالحقيقة ليست مجرّد زلّات بالمعنى الوصفي والنفسي، وحين كان يتكلّم عن أن الحلفاء لا يدفعون ما ينبغي في ميزانيات دفاعهم، مثلاً قال إنه سيقول للروس «اذهبوا وافعلوا ما تريدون بحق الجحيم» لأي دولة في الناتو لا تدفع ما عليها. تلك زلّات واعية، لا تشبه زلّات لسان جو بايدن العجوز، التي لا تحمل من المعاني إلّا أنه فقد الكفاءة اللازمة لانتخابه رئيساً، وأصبح استمرار ترشيحه مجرّد هدية لدونالد ترامب.
تتعلّق هذه الهواجس- وهي جزء من صورة أكبر- بدولة يتعلّق العالم بما يجري فيها، وهي تنطلق من حالة إحباط وتشاؤم، لم نعد نستطيع معها الكثير مع حربي أوكرانيا وغزّة الفظيعتين وغيرهما… ويمكن أن تتفاقم هذه الهواجس، ما دمنا قد سمعنا ترامب جاثياً وراء المنبر يصرخ باحثاً عن حذائه، لحظة فوضى محاولة اغتياله وحمايته.. كما يمكن أن تهدأ قليلاً إذا أدّت بالفعل إلى التهدئة وتبريد الخطاب والوحدة ووقف تصاعد العنف كما دعا بايدن وترامب والجميع مساء السبت!
كاتب سوري