عن زمن اليأس والعدل بطعم الخل

حجم الخط
2

كي تكتب ما لا تعيشه يجب أن تكون شاعرًا، أو بائع أساطير في زمن صارت فيه الرصاصة ابنة الواقع الكبرى، واخت المجازات البعيدة. أعتذر من القراء لأنني سأكتب من وحي اليأس، كما تجلّى في ثنايا عام ولّى، وكما أحسه عائدًا في نبض عام يهلّ؛ وللحالمين أترك ما سيقوله قوس قزح لأسوار عكا، وما سيرويه النبيذ للعاصفة.
من قال إننا في غاب، ونحن لا نعيش وفق قوانين الغاب المعروفة، وبدون حكمة الدم في صراعات بقاء نزلائه الضرورية لاستمرار حياتهم، وللمحافظة على توازناتها التراتبية في ذلك العالم اللافوضوي؟ ومن بشّرنا بالفرج القريب، وكل مساء ننام على نوح الحمام في صدورنا ونصحو على زغاريد الخناجر في ساحاتنا وعلى تعب الرايات البيض، وهي تلتف على رقاب عصيّ مرفوعة نحو العبث، ولا تفقه تراتيل المغفرة. عام من عمر الرصاص مضى وأمانينا ما زالت تذبح كل يوم وتكدّس كوابيس في خوابي اليأس والعتمة.
لقد أدمنّا الخوف وألفنا برودة الوحدة والراحة في حضن العجز، فحوّلنا بيوتنا إلى قلاع عافها الدوري الجميل، ورحل عن أبراجها ليفتش عن وطن يحرس زغب صغاره ولا يحترف أهله بقر خواصر الورد، ومطاردة الفرح إذا جنّ على عتبات التاريخ المقدسة.
عام من الخيبات طوي ولا أحد يتذكر وعود سواقيه المنهكة، ولا مَن حاد عن دربه وباع مجنّه من أجل عيون «قبّرة». رحل الشعراء والراقصات بكين، وبقي كل ناج من «قوس آخيله» بطلًا صغيرًا في ملحمة تتداعى فصولها على أنغام رعودنا حين «تفقس» راجفة بعد ومضة برق ساهرة، ثم تخبو في حضن دعاء ومسبحة. عام مضى وما زالت نصاله تتكسر في أجسادنا على النصال؛ ونحن، العرب، لا نجيد إلا السير على دروب الملح والعطش، ونشتري، بعد كل كبوة وفاجعة، تمائم الصمود من «كهاننا وشيوخنا»، ونردّد، بعد كل مذبحة، أحاديثهم عن عزة ضائعة وعن فريضة القتال ذودًا عن شرف القبيلة وعن المقبرة. عام مضى كالسيف وآمالنا كانت للهفة شفارته غمدًا ووسائدنا شظايا من وجع ونثار أحلام بائدة. عام مضى وكأنه راجع إلينا، ونحن لا نسير في النفق ولا نفتش عن نور في نهايته، لأننا نعيش نحن، المواطنين العرب في إسرائيل، في تيه وكأننا على أطراف صحراء رهيبة، يفرقنا سرابها وتعمينا صفرتها الذابلة.
نسير على منحدر خطير، وأنا لا أعرف كيف سننجو من السقوط الكبير في بطن الهاوية؛ لكنني أراهن على أن تكرار التجارب والعودة على ما فعلناه في السنوات الأخيرة، لن يقدّمنا ولا حتى خطوة واحدة صوب واحات الأمان، أو نحو الصارية.
لقد نجح العديد من المتابعين والمعنيين الغيورين بتشخيص معالم أزماتنا العاثرة واقترحوا سبلًا لمواجهتها، حيث أكد بعضهم، وأنا منهم، على ضرورة اجتراح وسائل عمل جديدة وأفكار ثورية تتلاءم وواقعنا المتغيّر، شريطة أن يوازيها، في الوقت نفسه، بناء مؤسسات وأطر تنظيمية حديثة، يجب ان تختلف جوهريًا عن جميع القوالب الحزبية والحركية القديمة المهترئة، أو أن يتم نسف مباني تلك الأطر وتحديثها بشكل جذري وخلاق. مضى العام وبقي كل القديم على رثه فتفاقمت أحوالنا وزادت خسائر مجتمعاتنا، الفردية والجمعيّة، وقد تبيّن اليوم أن كل من تعهدوا أمام الناس على مواجهة المخاطر بأساليب وبأفكار جديدة، لم يبعهم هؤلاء إلا أوهامًا كانوا قد زرعوها ليبنوا عليها جسورًا كي توصلهم إلى مراكزهم ومواقعهم «القيادية» الحالية. سنواجه العام المقبل ونحن نعاني من حالة اللهاث المزمن نفسها، وسنستنزف طاقاتنا بمحاولاتنا إطفاء الحرائق بقليل مما نملك من تراتيل ومن مياه آسنة؛ بينما سيستمر العابثون بأمن حاراتنا وبيوتنا وبسلامة أولادنا في إذكاء أعمال العنف والقتل والعبث، بكل ما بناه أباؤنا وبإحكام أنشوطات المشانق على رقبات هويتنا ووحدتنا ومستقبلنا. وبكلام بسيط آخر، سنستقبل عامًا جديدًا لا يختلف عن الذي ولّى، وسيكون هو أيضًا من نار وخوف وهزائم، وسيستمر فيه قادة مجتمعنا ومؤسساته السياسية والمدنية باجترار قرارتهم التي لن تتعدى كونها ردود أفعال باهتة لا ترقى إلى جسامة المخاطر، ولن تخرج عن المألوف الذي بسببه، هكذا يعتقد هؤلاء، تضمن سلامة مواقعهم وبقاء مؤسساتهم.

خاض المواطنون العرب معاركهم ضد سياسات حكومات إسرائيل المتعاقبة بثبات، وهم مصرون على البقاء في وطنهم

لم ننجح بإيجاد خيارات مواجهة جديدة، فمضينا على الطرقات نفسها، نفتش عن إنصافنا في دولة ما زال أبناؤها، ورثة هارون، ينبشون عظام الحقيقة ويتقاتلون على إرث قايين، ورأس الحكمة المزروعة على أنف خنجره؛ ونسعى وراء عدالة وكأننا أضعناها في حواكيرنا. لم نقتنع، رغم سجل الخسائر الطويل، بأننا نقيم في أرض لم يعرف ترابها معنى واحدًا لعدالة واحدة؛ فمنذ أورثت السماء هذه الأرض للبشر سادت فيها قوانين العدم، وصار القوي هو صاحب الهياكل ومذابحها وصانع العدل في قصورها.
لقد خاض المواطنون العرب معاركهم ضد سياسات حكومات إسرائيل المتعاقبة بثبات، وهم مصرون على البقاء في وطنهم؛ وقاوموا «محفزات» تهجيرهم أو تدجينهم بنجاح لافِت، لامَس، في بعض محطاته، تحقيق المعجزة. لم تستسلم إسرائيل بعد هذه السنوات من المواجهات المتتالية؛ فكانت كل مرة تجرب أساليب قمع جديدة وتستهدف، من ورائها، محو إنجازاتنا وتشويه معالم هويتنا، وتفتيت أواصر وحدتنا وضرب إجماعنا على تعريف ماهية مصلحتنا الفوقية الجامعة؛ ويبدو أنها استهدت مؤخرًا إلى نجاعة وسيلتين جديدتين فتبنتهما وبدأت بتوظيفهما بشراسة غير معهودة من قبل. لم تختلق إسرائيل مصادر توليد العنف داخل مجتمعاتنا؛ لكنها استوعبت أهمية الاستفادة من نشوء بؤر الصراعات الداخلية، وتوالد «الكتائب الضاربة»، على جميع صنوفها ودوافعها، داخل قلاعنا، وفهمت أن استغلال هذا المستجد وتشجيع سطوة عناصره هي أفضل الأسلحة لضرب المجتمع الفلسطيني في إسرائيل ولضعضعته، من خلال افتعال احترابات أهلية نراها في معظم بلداتنا. ومع جنوح مجتمع الأكثرية اليهودية نحو حكم فاشي، بدأت رموز هذا النظام بعملية مسح شامل لمخلّفات النظام السابق، حيث توّجت عملية المسح هذه بإصدار «قانون أساس: إسرائيل الدولة القومية  للشعب اليهودي»، أو ما يسمى على الشيوع «قانون القومية»، ليشكل هذا القانون في المستقبل حاضنة حصينة وشرعية، في عرف مشرّعيه ومنتخبيهم، لسياسات القمع والتفرقة العنصرية، ووسيلة «قانونية» لضمان أفضلية اليهود على باقي المواطنين العرب، وحرمانهم من المطالبة بالمساواة في حقوقهم الجمعية والفردية، والاكتفاء بالفتات الذي سيحصل عليه كل مواطن عربي «بذكائه» وبقدرته على الانصهار أو التدجّن في هذا الجحيم المستعر. لقد انتهى العام المنصرم بمشاهدتنا لأحداث مسرحية محزنة جرت داخل ما يسمى «قصر العدل»، هي المحكمة العليا الاسرائيلية، فشاهدنا كيف أصغى وناقش أحد عشر قاضيًا، عددًا من الالتماسات التي قدّمتها جهات مختلفة ضد «قانون القومية»، كان من أبرزها، بالنسبة لنا، الالتماس الذي قدمته جمعية «عدالة» باسم المؤسسات القيادية للجماهير العربية.
أتطرق إلى هذه المسألة لأنني على قناعة بأن الناس ستنسى تفاصيلها مع قدوم العام الجديد، وما سيحمله لنا من مآس ودموع؛ وقد نعود إليها فقط عندما سيصدر قرار القضاة الذي لن يختلف، برأيي، عن قرارتهم المجحفة التي صدرت منذ عقود وكانت في مجملها ضد مصالح وحقوق المواطنين العرب.
لقد بدأت مقالتي وكتبت من وحي اليأس وسأنهيها على عتبات «هيكل» ديست في دهاليزه أضلاع العدالة، التي فتش عنها المواطنون العرب، حين كان يحكم الدولة نظام عنصري، ولم يجدوها ؛ فهل سيخرج اليوم من أنيابها العسل، ونحن أمام تشكل نظام مختلف بجوهره عن سابقيه؟ وهل كان قرار القيادات بالتوجه إلى محكمة العدل العليا الاسرائيلية في هذه الظروف صائبًا؟ أم أنه، مثل باقي القرارات، كان مجرد خربشة أخرى على صفحتي اليأس والتيه في صحراء قاحلة نعيش في سرابها؟ وهل سيبقى قرارهم، مثل ما سبقه، «إنجازًا « محفوظًا في سجلات من كانوا صانعيه؟
كاتب فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Salem:

    مع كل هذا كل عام وأنت بخير ودمت وأمثالك لفلسطين ولهذه الامة التي تأكل نفسها

  2. يقول أسامة كلّيَّة سوريا/ألمانيا:

    وكل عام وانتم بخير وأملنا أن تكون السنة الجديدة أفضل من سابقتها.

إشترك في قائمتنا البريدية