عن عائشة نور التي جاءت من سياتل لتستشهد في فلسطين

وائل الحجار
حجم الخط
0

لندن ـ «القدس العربي»: اختارت الولايات المتحدة الأمريكية مفرداتها بعناية، وهي تبدي «انزعاجها العميق» من اغتيال مواطنتها في الضفة الغربية المحتلة الجمعة، متجنبة «الاستعجال» في توجيه إدانة أو استنكار، أو حتى أيّ اتهام، أو تحميل مسؤولية، لجيش يربض على أرض محتلة، ويمارس في نظر القانون الّدولي ورعاته المفترضين، كل أشكال الانتهاكات، وفي مقدمتها الاستيطان غير القانوني لأراضي شعب آخر.

وهذا الاستيطان الذي كانت ابنة الـ26 ربيعا، عائشة نور إيزغي إيغي، تواجهه سلميا مع رفاقها في حركة التضامن العالمية مع فلسطين، ارتكب جريمة جديدة موصوفة باغتياله الطالبة التي تخرّجت في وقت سابق هذا العام، وتُظهرها صورٌ آنذاك وهي تضع كوفيتها.
صورة اختار بعض الإعلام أن يبرزها ليذكّر الجمهور ربما بـ«سبب» قتلها.
وهو سبب أدعى إلى الفخر، في مواجهة مستوطنين وجيش احتلال يحميهم، ومستوطنين برتبة وزراء يقودون الحكومة الإسرائيلية ويوزّعون الأسلحة على ميليشياتهم و«بلطجيتهم» ويفخرون بعنصريّتهم وفاشيتهم على الملء، وبدعواتهم لتهجير الفلسطينيين من أرضهم، وإحلال الاحتلال محلّهم، في إسرائيل كبرى، عرضها ويعرضها رئيس حكومتها بنيامين نتنياهو في خريطته المشينة مرارا وتكرارا. إنها «إسرائيل من النهر إلى البحر» التي لا تجرّمها الإدارة الأمريكية.

شهيدة الحركة الطلابية

وعائشة نور، الأمريكية من أصول تركية، التي ولدت في مدينة أنطاليا على سواحل البحر الأبيض المتوسط، ارتقت شهيدة لفلسطين، وكذلك شهيدة للحركة الطلابية الأمريكية التي أعلت الصّوت خلال الأشهر الماضية رفضا لحرب الإبادة الإسرائيلية على غزة، وفي مواجهة جرائم الاحتلال ضد الفلسطينيين في كل مكان.
قبل أشهر تخرجت عائشة نور من جامعة واشنطن «UW» في مدينة سياتل، في علم النفس، وبتخصص فرعي في اللغات والثقافات شرق الأوسطية، وفقًا لما ذكره أريا فاني، أستاذ اللغات والثقافات شرق الأوسطية في الجامعة، لصحيفة «الغارديان» البريطانية.
وفي حفل تخرجها، سارت على المسرح وهي تحمل علماً كبيراً مكتوباً عليه «فلسطين حرة».
وقبل أن ترحل إلى فلسطين، نشطت عائشة نور في إطار «جامعة الشعب لتحرير غزة» في حرم جامعة واشنطن في سياتل، وهي حركة طلابية من بين عشرات أخرى أطلقت للتضامن مع غزة وفلسطين، في مواجهة جرائم الاحتلال الإسرائيلي، وأقامت مخيما احتجاجيا في حرم الجامعة، وأعلنتها «منطقة محررة».
وعائشة نور هي الشهيدة الثامنة عشرة التي ترتقي في قرية بيتا الفلسطينية في محافظة نابلس منذ عام 2020.
فماذا يوجد هناك؟
في تموز/يوليو الماضي، أعلنت الإدارة المدنية للاحتلال الإسرائيلي رسميا تحويل منطقة جبل صبيح في بلدة بيتا، والبؤرة المقامة على أرضه «أفيتار» إلى أراضي دولة، أي مصادرتها، بعد ثلاثة أعوام من إعادة الاستيطان في البؤرة، و10 أيام من «شرعنة» المستوطنة من قبل حكومة الاحتلال الإسرائيلي.
وبهذا صارت مستوطنة «أفيتار» المستوطنة رقم 37 في ما يعرف باسم «مجلس السامرة الإقليمي» الاستيطاني في الضفة المحتلة.
ولحظ «المخطط الهيكلي» للمستوطنة الاستيلاء على أكثر 65 دونمًا من الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وكان أول المرحبين، منظمة «نحالا» الاستيطانية، ووزير المالية الإسرائيلي المتطرف والوزير في وزارة الأمن بتسلئيل سموتريش الذي لم يفته أن يهنئ منظمة «نحالا» «على سنوات العمل الطويلة من أجل أفيتار».
وبرز في هذه الاحتفالية الإسرائيلية دانييلا فايس، زعيمة حركة «نحالا» اليمينية المتطرفة التي فرضت كندا في شهر حزيران/يونيو الماضي عقوبات عليها، وفرضت الولايات المتحدة كذلك عليها كفرد عقوبات في شهر تموز/يوليو الماضي.
ومواقف هذه التنظيمات الإرهابية الاستيطانية معروفة وعلنية بالدعوة إلى تهجير الفلسطينيين من أراضيهم في غزة والضفة الغربية، واحتلالها وإحلال المستوطنين مكانهم، وهو نهج لخّصه «المركز الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة» «بتسيلم» في وصف دوافعه خلال شهادة مديرته التنفيذية يولي نوفاك أمام مجلس الأمن الدولي الأربعاء الماضي.
قالت نوفاك في شهادتها، لفهم سلوك الحكومة الإسرائيلية الإجرامي على مدار الأشهر الأحد عشر الماضية، يجب أن تفهموا الهدف الشامل للنظام. منذ تأسيس إسرائيل، كان المبدأ التوجيهي لنظامها هو تعزيز التفوق اليهودي على كامل الأرض التي تحت سيطرتها. وقد تم تكريس هذا كمبدأ دستوري قبل ست سنوات. وتقول إرشادات الحكومة الحالية (اقتباس): «للشعب اليهودي حق حصري وغير قابل للتفاوض في جميع أجزاء أرض إسرائيل».
وهذه الكلمات تصف واقع الفصل العنصري الذي أقامه النظام الإسرائيلي، ليس فقط في الضفة الغربية وغزة المحتلتين، وفي الجولان السوري، بل في الداخل الإسرائيلي أيضا، الذي يضيّق الخناق أكثر فأكثر على كل الأصوات العربية الفلسطينية واليهودية المعترضة على عنصريته وفاشيته.

حركة التضامن: طلقة في الرأس

في مواجهة نظام الفصل العنصري والاستيطان هذا نشطت عائشة نور ورفاقها في حركة التضامن مع فلسطين.
وشرحت «حركة التضامن العالمية» (IMS) ظروف استشهاد عائشة نور في بيان مفصّل وجه الاتهام بشكل مباشر لجيش الاحتلال.
وقالت الحركة في بيانها إن المظاهرة الأسبوعية للحركة في بيتا، التي قتلت فيها عائشة نور ضمّت «بشكل رئيسي رجالًا وأطفالًا يصلّون، وواجهتها قوة من الجيش الإسرائيلي المتمركز على تلة. في البداية، أطلق الجيش كميات كبيرة من الغاز المسيل للدموع، ثم بدأ باستخدام الذخيرة الحية. كانت عائشة نور، التي نعتبرها شهيدة في النضال، هي المتظاهرة الـ18 التي تُقتل في بيتا منذ عام 2020. كانت تحمل الجنسية الأمريكية ومن أصل تركي».
وأوضح بيان الحركة أن القوات الإسرائيلية أطلقت طلقتين، أصابت إحداهما رجلًا فلسطينيًا في ساقه، أما الطلقة الثانية فأصابت عائشة نور التي توفيت بعد وقت قصير من نقلها إلى مستشفى في نابلس.
ونقلت عن مريم داغ (اسم مستعار) و«هي متطوعة أخرى في حركة التضامن الدولية» كانت حاضرة في المكان وشهدت إصابة زميلتها المميتة، قولها «كنا نتظاهر سلمياً إلى جانب الفلسطينيين ضد استعمار أراضيهم واستيطان مستوطنة إفيتار غير القانونية. توتّرت الأوضاع عندما بدأ الجيش الإسرائيلي بإطلاق الغاز المسيل للدموع والذخيرة الحية، ما أجبرنا على التراجع. كنا نقف على الطريق، على بعد حوالي 200 متر من الجنود، وكان هناك قناص واضح على السطح. كانت زميلتنا تقف بعيدًا قليلاً بجوار شجرة زيتون مع بعض الناشطين الآخرين. ورغم ذلك، أطلق الجيش النار عمدًا على رأسها».
ورأت الحركة في بيانها أن ما حصل هو «مثال آخر على عقود من الإفلات من العقاب الذي منح للحكومة والجيش الإسرائيلي، بدعم من الحكومات الأمريكية والأوروبية، التي تتواطأ في تمكين الإبادة الجماعية في غزة».
كما نقلت عن صديق للناشطة الراحلة وزميل لها في حركة التضامن الدولية، لم يرغب في الكشف عن اسمه، قوله «لا أعرف كيف أقول ذلك. لا توجد طريقة سهلة. أتمنى أن أتمكن من قول شيء معبّر، لكن لا أستطيع حبس دموعي… صديقتي وزميلتي وشريكتي في السفر إلى فلسطين، قُتلت برصاصة في الرأس على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي. لترقد بسلام. إنها الآن واحدة من العديد من الشهداء في هذا النضال.»
وذكّرت الحركة بأن «بيتا هي قرية في الضفة الغربية، وأن متطوعاً أمريكياً آخر يدعى أمادو سيسون أصيب قبل أسابيع قليلة (هناك) برصاصة حية في ساقه».
وقالت إن القرية «تقع بالقرب من عدة مستوطنات إسرائيلية غير قانونية، وتجري فيها مظاهرات منتظمة. ونظرًا لتصاعد العنف من القوات الإسرائيلية، يمتنع السكان حاليًا عن المسيرات أو الهتافات، ويكتفون بالتجمع على الأرض والصلاة».
ولاحظت، بشهادة النشطاء الدوليين، تصاعدًا حادًا في العنف من القوات الإسرائيلية خلال الفترة الأخيرة.
ثم عرضت الحركة قائمة بالشهداء المتظاهرين السّلميين الفلسطينيين الذين قتلهم الاحتلال ومستوطنوه في بيتا منذ العام 2020 وهم:

• محمد حمائل، 15 عامًا (11 مارس 2020 )
• إسلام دويكات، 22 عامًا (9 أبريل 2020)
• عيسى سليمان برهم، 40 عامًا (14 مايو 2021)
• طارق عمر صنوبر، 27 عامًا (16 مايو 2021)
• زكريا ماهر حمائل، 25 عامًا (28 مايو 2021)
• محمد سعيد حمائل، 15 عامًا (11 يونيو 2021)
• أحمد زاهي بني شمسة، 15 عامًا (16 يونيو 2021)
• شادي عمر شرفا، 41 عامًا (27 يوليو 2021)
• عماد علي دويكات، 38 عامًا (6 أغسطس 2021)
• محمد علي خبيصة، 27 عامًا (24 سبتمبر 2021)
• جميل جمال أبو عياش، 32 عامًا (1 ديسمبر 2021)
• فواز أحمد حمائل، 47 عامًا (13 أبريل 2022)
• عماد جارح بني شمسة، 16 عامًا (9 أكتوبر 2023)
• كرم أمين دويكات، 17 عامًا (15 أكتوبر 2023)
• محمد إبراهيم عدلي، 13 عامًا (23 نوفمبر 2023)
• معاذ أشرف بني شمسة، 17 عامًا (9 فبراير 2024)
• عميد غالب سعيد الجروب، 34 عامًا (22 مارس) 2024، توفي متأثراً بإصابته بطلق ناري في الرأس أصيب به في 21 أغسطس 2023).

كما اتهمت الحركة في بيانها بعض وسائل الإعلام بتكرار «ادعاءات كاذبة بأن ناشطي حركة التضامن الدولية ألقوا الحجارة خلال المظاهرة السلمية في بيتا» وقالت إن «جميع شهود العيان ينفون هذا الادعاء، وإن عائشة نور كانت على بعد أكثر من 200 متر من مكان وجود الجنود الإسرائيليين، ولم تكن هناك أي مواجهات هناك في الدقائق التي سبقت إطلاق النار عليها».

سجل في قتل المتضامنين

ومع استشهاد عائشة نور، عاد إلى أذهان الفلسطينيين استشهاد مواطنتها الأمريكية راشيل كوري عام 2003 دهسا بجرافة عسكرية للاحتلال الإسرائيلي كانت تهدم مبان مدنية لفلسطينيين في مدينة رفح في قطاع غزّة.
وكوري هي واحدة من عدد من المتضامنين الأجانب السّلميين الذين قتلهم الاحتلال الإسرائيلي أو اعتدى عليهم خلال العقدين الأخيرين.
ومن بين هؤلاء، حسب تقرير أعدته وكالة «الاناضول» البريطانيان توم هرندل الذي قتل برصاصة إسرائيلية في رأسه يوم 13 كانون الثاني/يناير 2004 وهو يحتضن طفلة فلسطينية صغيرة، في محاولة منه لحمايتها من الرصاص في مدينة رفح، وجيمس هنري ميللر الذي قتله الجيش الإسرائيلي بالرصاص داخل غزة في 2 أيار/مايو 2003 عندما كان على رأس عمله يصور فيلما وثائقيا لهيئة الإذاعة البريطانية،
ومن أبرز الاعتداءات المسجلة ضد المتضامنين، هجوم قوات من البحرية الإسرائيلية في 31 أيار/مايو 2010 على سفينة «مافي مرمرة التركية» بالقرب من شاطئ غزة، وبلغ عدد ضحاياها 10 قتلى من الأتراك، فيما أصيب أكثر من 56 آخرين.
كذلك اغتالت قوات الاحتلال المواطنة الفلسطينية الأمريكية مراسلة قناة «الجزيرة» الشهيدة شيرين أبو عاقلة أثناء تأديتها مهامّها بتغطية اقتحام القوات الإسرائيلية لمخيم جنين في الضفة الغربية، في 11 أيار/مايو 2022.
ولئن كانت إسرائيل استطاعت الإفلات من المحاسبة في كل هذه الجرائم التي ارتكبتها، ضد أجانب، فهي مسؤولية تقع على عاتق حكومات الدول التي ينتمي إليها هؤلاء، والتي تفشل بالتأكيد كذلك في وقف الانتهاكات والجرائم ضد الإنسانية المستمرة التي ترتكبها إسرائيل ضد الفلسطينيين والتي وثقتها مؤسسات العدالة الدولية.
ويموت الفلسطينيون والمتضامنون الأجانب، بأسلحة تصدّرها دول معروفة إلى إسرائيل.
ولعلّ أبلغ تلخيص لهذا الواقع نطق به محافظ نابلس غسان دغلس الذي قال، أمام جثمان الشهيدة عائشة نور إزغي إيغي المسجى في المستشفى، «مثلما قتل هذا الرصاص الشعب الفلسطيني في غزة وجنين وطولكرم فإنه يقتل مواطنين أمريكيين، إنها رسالة واضحة أوقفوا الحرب المجنونة على فلسطين».

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية