خلال الأيام القليلة الماضية كرر الرئيس المصري أكثر من مرة وفي سياقات متنوعة توصيف الانتفاضات الديمقراطية التي اجتاحت بلاد العرب في 2011 كعلاج خاطئ لتشخيص خاطئ. في ندوة تثقيفية للقوات المسلحة وفي لقاءات مع سياسيين أوروبيين وفي حوارات علنية نقلت وقائعها إعلاميا، نسب إليه أو قال هو نصا إن «أحداث 2011» أعادت مصر إلى الوراء لكونها استندت إلى تشخيص خاطئ للأوضاع السابقة عليها وقدمت علاجا خاطئا بالإصرار على «إسقاط النظام» وعرضت الدولة والمجتمع لمخاطر جمة لم تتراجع حدتها بعد. لم يقتصر الحديث على مصر فقط، بل نسب إلى الرئيس السيسي أيضا التأكيد أن 2011 أسفرت عن نتائج مدمرة في بلدان مثل سوريا وليبيا واليمن التي أودي باستقرارها وتحتاج لسنوات طويلة لكي تعيد بناء مؤسسات الدولة الوطنية ولمئات المليارات من الدولارات لإعادة إعمار مجتمعات هدمت.
وللإصرار الرئاسي على توصيف 2011 «كأحداث شكلت علاجا خاطئا استند إلى تشخيص خاطئ» دلالات كاشفة لمضامين الرؤية الرسمية الراهنة لقضايا الحكم وللمطالب الشعبية في مصر تستحق التوقف أمامها.
من جهة أولى، تستبدل كلمة «أحداث» بكلمات مثل الثورة والانتفاضة والحراك الديمقراطي والربيع العربي حين الإشارة إلى خروج قطاعات واسعة من المواطنين إلى الفضاء العام في يناير 2011 داعين إلى تغيير نظام الرئيس الأسبق مبارك والتأسيس للتداول السلمي للسلطة ولصون حقوق الإنسان والحريات. وخلف الاستبدال اللغوي تتوارى العديد من المعاني التي إما يجرد منها يناير 2011 أو تلصق به قسرا لكي تشوه صورته في المخيلة الجماعية للشعب المصري. هكذا، تلغي كلمة «أحداث» مكون المطالبة الشعبية الواعية بالتحول الديمقراطي التي شارك فيها الملايين بين 25 يناير و11 شباط/ فبراير 2011 لأن «الحدث» لغويا هو فعل عفوي أو تلقائي أو مفاجئ لا حراك منظم يسبقه ولا مطالب واضحة توجهه. هكذا أيضا، وبالنظر إلى سوابق توظيف كلمة «أحداث» في الخطاب الرسمي للحكم في مصر، يفرض على يناير 2011 مضمونا فوضويا وإجراميا وخارجا على القانون وتشرع الأبواب لمقارنته على سبيل المثال بأحداث «18 و19 يناير 1977» (انتفاضة الخبز التي أسماها الرئيس الأسبق السادات انتفاضة الحرامية ومثلت في الجوهر احتجاجا شعبيا على الغلاء وسياسات اقتصادية همشت الأغلبية محدودة الدخل) وأحداث «الأمن المركزي 1986» (عنف بعض مجندي الشرطة من فقراء المصريين الذين تظاهروا ضد أساليب معاملة غير إنسانية عانوا منها وتورطوا في احتجاجات عنيفة). بالقطع، شهد يناير 2011 عنفا هنا وهناك (ضد أقسام الشرطة وأمامها وفي السجون وخارجها وفي مواقع أخرى). غير أنه لم يكن عنفا شعبيا فقط، بل كان العنف الرسمي أسبق بداية وأكثر منهجية وأشد وطأة (ما سمي في 2 شباط/ فبراير 2011 بموقعة الجمل نموذجا). ويستحيل موضوعيا إنكار الطبيعة السلمية الغالبة للأيام الـ 18 يناير 2011 كما وثقتها الحشود الكبيرة في شوارع وميادين المدن المصرية وكما انتهت بالإخلاء الطوعي للفضاء العام ما أن استقال الرئيس الأسبق مبارك.
ما يستحيل تجريد يناير 2011 منه وما يتعذر إلصاقه به موضوعيا، تدفعه إلى الواجهة كلمة «أحداث» التي يشي بالإصرار الرئاسي على استخدامها في 2018 برغبة رسمية في تجريم الانتفاضة الديمقراطية والمرادفة بينها وبين الفوضى في مخيلة الناس.
نحن أمام تجريد شامل لـ يناير 2011 من كل مضمون إيجابي، وفرض للإدارة غير الديمقراطية لشؤون البلاد باسم الحماية من جحيم خروج الناس إلى الفضاء العام، وإحالة المواطن إلى خانات التبعية والانتظار.
من جهة ثانية، يكشف توصيف يناير 2011 وغيره من الانتفاضات الديمقراطية «كعلاج خاطئ» عن قناعة سائدة داخل الدوائر الرسمية في مصر تختزل بمقتضاها المطالب الشعبية بالتغيير إلى أفعال ضارة ومرفوضة يتعين منعها إن بإقناع الناس بعدم جدواها أو بإجبارهم على الابتعاد عنها. في الخطاب الرئاسي، تلحق بتوصيف العلاج الخاطئ عبارات مكملة مثل «الوعي المنقوص والمزيف هو العدو الحقيقي» (ندوة تثقيفية للقوات المسلحة عقدت في 11 تشرين الأول/أكتوبر الماضي)، «التكلفة الإنسانية والمالية والأخلاقية التي دفعتها الدول التي دخلت في أزمات الأعوام الماضية أكبر بكثير من التكلفة التي كانت ستدفعها لو استمرت الأوضاع بدون تغيير» (تصريحات على هامش منتدى شباب العالم المنعقد حاليا في مدينة شرم الشيخ)، «ما حدث في 2011 كان تحركا غير مدروس تم بحسن نية… فتحنا أبواب الجحيم على بلادنا عندما تصورنا أننا قادرون على تغيير واقعنا، وكلامي هذا لا يعني السكوت على الخطأ، لكن الأمور في معظم الأحيان تخرج عن السيطرة» (تصريحات على هامش منتدى شباب العالم).
حين ينظر إليها معا، نصبح إزاء قناعة رسمية تخاطب المصريين صراحة كجموع ذات وعي منقوص أو مزيف دفعها مزيج من حسن النية والتحرك غير المدروس إلى إلحاق بالغ الضرر بالبلاد حين رفعت مطالب التغيير في 2011. ثم يؤسس على ذلك التوجه إما إلى مطالبة جموع المصريين «حسنة النية» بالاستقالة من طلب التغيير والاكتفاء بالتعويل على الحكم القائم لمعالجة الأزمات والأخطاء القائمة لأن جحيم فوضى التغيير الشعبي (في الخطاب الرئاسي «خروج الأمور عن السيطرة») أخطر على الدول والمجتمعات من كل شيء آخر أو تحذير الناس من عواقب «التورط مجددا في أحداث كأحداث 2011» لأن «الدولة المصرية» لن تقبل بتكرارها.
المراد من توصيف يناير 2011 كعلاج خاطئ هو إعادة المواطنين إلى خانات التبعية لنظام الحكم القائم، ودفعهم إلى التسليم باحتكار الرئيس ومعه حكومته والمؤسسات والدوائر الرسمية لكامل القدرة على إدخال تغيرات إيجابية ومنظمة لمواجهة الأزمات القائمة، ومن ثم إقناعهم طوعا بالامتناع عن طلب التغيير نظرا لعواقبه الوخيمة وتحذير رافضي الاقتناع من مغبة أفعالهم الضارة والمرفوضة. وليس من وراء هذه القناعة الرسمية التي يدلل عليها الخطاب الرئاسي الراهن في مصر سوى النزوع لإدارة شؤون الحكم والسياسة والمجتمع بعيدا عن مشاركة الناس والتوجس من المطالب الشعبية التي لا يراد لها أن ترفع مهما اتسمت بالطبيعة السلمية ومهما نتجت عن أزمات وأخطاء حقيقية. فالأخيرة ينبغي أن تترك للرئيس وحكومته، هم المعنيون بمواجهتها وتوفير الحلول الفعلية بدون الفوضى التي يأتي بها خروج الناس إلى الشوارع وأبواب الجحيم التي تفتحها الثورات والانتفاضات.
في الخطاب الرئاسي «خروج الأمور عن السيطرة» أخطر على الدول والمجتمعات من كل شيء آخر أو تحذير الناس من عواقب «التورط مجددا في أحداث كأحداث 2011» لأن «الدولة المصرية» لن تقبل بتكرارها.
من جهة ثالثة، يدلل توصيف يناير 2011 كحصيلة «تشخيص خاطئ» على حضور قناعة رسمية أخرى مفادها أن تغيير نظام الرئيس الأسبق مبارك لم يكن ما احتاجته البلاد أو استدعته ظروفها آنذاك. ولأن الحكم الراهن وعلى لسان رئيس الجمهورية ومسؤولين آخرين دأبوا على الإشارة إلى سوء أوضاع البلاد قبل 2011 (عبارة «شبه الدولة» مثالا)، يصعب موضوعيا أن يفسر «التشخيص الخاطئ» هنا كتعبير عن تقييم إيجابي للحقبة المباركية. الأرجح أن المقصود هو أن البلاد كانت تسير في اتجاه سياسي غير صائب (اقتصاديا واجتماعيا يتبنى الحكم الراهن اختيارات السنوات الأخيرة لحكم الرئيس مبارك)، وكانت في حاجة إلى «تغيير منظم» في أعلى قمة حكمها بالإزاحة السلمية والهادئة للرئيس الأسبق. الأرجح كذلك أن المقصود هو أن مثل ذلك التغيير المحدود في القصر الرئاسي كان كفيلا بإخراج مصر من أزمات ما قبل 2011، بدون أن تضطر الدولة ويضطر المجتمع لتحمل «جحيم» يناير 2011 وكلفته الباهظة.
تلك، إذا، أيضا قناعة رسمية تستهدف إعادة المواطنين إلى خانات التبعية والانتظار بدون مطالب أو حراك حتى في لحظات التأزم السياسي الطاغي (تذكروا الانغلاق الكامل لنظام مبارك في أعقاب انتخاباته البرلمانية الأخيرة 2010)، وتريد إقناعهم بالابتعاد حتى عن المطالبة ببعض الإصلاحات واضحة المعالم والحدود (تذكروا أن يناير 2011 بدأ بالمطالبة بإقالة وزير الداخلية الأسبق فقط). ليترك المصريون أمر بلادهم حتى حين يتدهور بشدة للمؤسسات والدوائر الرسمية لكي تبحث لهم عن مخارج آمنة وتجنبهم شرور أنفسهم بوعيهم المزيف وشرور المطالب الشعبية غير المدروسة.
نحن أمام تجريد شامل يناير 2011 من كل مضمون إيجابي، وفرض للإدارة غير الديمقراطية لشؤون البلاد باسم الحماية من جحيم خروج الناس إلى الفضاء العام، وإحالة المواطن إلى خانات التبعية والانتظار. وهذه رؤية سلطوية لا تعدم التأييد الشعبي في مصر ولا تقتصر بحال من الأحوال على حكمها الراهن، بل تمتد إلى خارج برها باتجاه إقليمنا الذي يواصل الاستبداد استيطانه في مواقع عديدة. ولن ينجح الديمقراطيون، ولا أصحاب النفس الإصلاحي الحقيقي داخل المؤسسات والدوائر الرسمية في مواجهة مرادفة مطالب التغيير الشعبية بالفوضى سوى بالبحث عن إجابات صريحة وموضوعية بشأن سبل إنجاز التحول الديمقراطي مع الحفاظ على حد أدنى من الاستقرار إن بعد الانتفاضات الديمقراطية أو دون الولوج إلى غياهبها الصعبة وبالفعل غير مضمونة العواقب.
كاتب من مصر
الذي خرب ثورة يناير هم العلمانيين والليبراليين واليساريين والقومجيين الذين تحالفوا مع العسكر الذي إنقلب على الثورة! ولا حول ولا قوة الا بالله
أخى الكروى داود ،تحياتى، من تقصد بالضبط؟؟؟؟؟
الجنرال يكشف حقيقته. وهوما تنبه إليه مبكرا الشيخ حازم صلاح أبوإسماعيل -فك الله كربه- حين تكلم عن الممثل العاطفي! العيب ليس فيه، ولكن في الذين أيدوه وناصره كرها في الإسلام والمسلمين،فكانت النتيجةما يرون ويسمعون .ولله عاقبة الأمور!
كانت يناير ثورة رائعة ولأول مرة استطاع المصريون بحرية ونزاهة اختيار من يمثلهم في الرئاسة والبرلمان
الرئيس والبرلمان الشرعي الذي تم التآمر والتحريض ضده من قبل حفنة من مدعي الليبرالية والديمقراطية واليسارية
شأن كافة الدتاتوريات في التاريخ، يحاول النظام في مصر-السيسي أن يجعل من التاريخ المصري منجما بتصرف من الحجج والأمثلة، والتي يعمل جاهدا على احتوائها لصالحه، وما ذكركم سيدي حمزاوي لثورة يناير، التي جعل منها النظام السيساوي “أحداثا” إلا خير دليل على ما أفترض.
للأسباب التي ذكرها الدكتور حمزاوي نعتقد أن الثورة الديمقراطية التي تشهدها سوريا واليمن وليبيا والعراق جديرة بالفخر فقد حققت لشعوب تلك الدول الرخاء والأمن والاستقرار. إنه تحليل رائع لنفكر عظيم.