عن متقاعدَيْن يقعدان منتظرَيْن

حجم الخط
0

الرجلان الكهلان، الجنرال والدكتور، أو من كانا في وقت مضى جنرالا ودكتورا، يجيئان إلى المقهى كل يوم. يجلسان إلى الطاولة نفسها، لتكون لهما الإطلالة نفسها على الطريق، كل يوم أيضا. وهما يعلّقان على ما يريان، على ذلك السائق مثلا، الذي عطلّ السير بعبوره من الجهة الخطأ، وعلى تلك المرأة التي ترتدي ثوبا قصيرا، أو المرأة الأخرى التي أقنعها الشاب الذي وظّف نفسه منظّما للسيارات، التي تأتي لتتوقّف هنا لصق مستوعبات النفايات؛ أو على سائق الموتوسيكل الذي أركب معه زوجتيه واثنين من أولاده، ثم على تلك المرأة المتسوّلة التي تجرّ وراءها صغارها وتضع، إذ تصل إلى متسع من الرصيف، كرتونة على الأرض مقرّرة أن هذا هو مكانها، ليوم واحد أو لأيام عدّة لاحقة. مشاهد تتكرّر أمام الكهلين اللذين ينظران إليها من الزجاج الواسع أمامهما. مشاهد عادية، بل الأكثر عادية طالما أن لا شيء مما يحدث هناك على الطريق سيكون مفاجئا. صحيح أن ما سيحصل أمامهما سيحصل مرّة واحدة، كأن لا نعود نرى مرّة ثانية سيارة تعبر في الطريق الممنوع، لكنه مع ذلك يشير إلى كل ما يحصل بالتمام في سائر أنحاء المدينة.
وهما، الاثنان، يعلّقان على بعض ما يعبر أمامهما، أو تحتهما طالما أنهما يطلان على الشارع من طبقة المقهى الثانية. ولا شيء مفاجئا أيضا، أو جديدا، في التعليقات التي يقولها أحدهما للثاني. هي التعليقات نفسها التي يقولها الآخرون عادة، كل الآخرين، على المشهد نفسه. ثم يعودان إلى ما يسميانه شغلهما. يسأل الدكتور الطبيب ما هي عاصمة أستراليا، فيردّ الثاني بأنها ملبورن، ليكتشفا بعد ذلك أن حروف تلك الكلمة لا يناسب عددها عدد المربعات في رقعة الكلمات المتقاطعة. لكنهما، إزاء كلمات أخرى، يُظهران معرفة بالمعلومات العامة لا بأس بها، على الرغم من أن الشاب الصحافي، الجالس إلى طاولة أخرى قريبة، يصوّب لهما بين الحين والحين قائلا إن عاصمة أستراليا هي كانبيرا، مبتسما في أثناء ذلك، تلك الابتسامة اللطيفة التي تُرسَل عادة إلى الكهول.

مساحة الزجاج العريضة التي تكشف لهما الحياة الجارية في الخارج تتيح لهما، من ناحية أخرى، أن يكونا منفصلين عنه. هي شاشة تعرض لهما تلك الحياة القليلة التي لا يملّانها رغم ذلك.

مساحة الزجاج العريضة التي تكشف لهما الحياة الجارية في الخارج تتيح لهما، من ناحية أخرى، أن يكونا منفصلين عنه. هي شاشة تعرض لهما تلك الحياة القليلة التي لا يملّانها رغم ذلك. وهذه الجلسة هناك هي فسحتهما اليومية الوحيدة، إذ يجيئان إليها كل من بيته وسيعودان حين ينهيانها كل إلى بيته. جلسة قصيرة هي واحدة من جلسات متكررة يتألّف منها الفيلم، حيث تبدأ كل من هذه الجلسات بتحية «غود مورنينغ» (وهذه التحية أعطيت لعنوان الفيلم أيضا، دلالة على الغود مورنينغات التي تتالى كل يوم، بانتظام). وهما لا يرغبان في عودتهما إلى البيت، أو البيتين. فأحدهما، الطبيب، سيظل إلى جانب امرأته التي قطع الزهايمر أشواطا في نيله منها. وهو، لعلمه أن مرضها لن يقف عند حد، يروح يقول لرفيقه الجنرال إنه، بعد حين، ربما لن يستطيع الخروج من بيته أبدا.
أما الجنرال فمعرّض لبأس زوجته ومراقبتها للوقت الذي يقضيه في المقهى، وفي مرّة، كما نشاهد في الفيلم، كبسته هناك لترى ماذا يفعل. فقط البيت وفسحة المقهى القليلة، هذه هي الحياة التي يخافان انقضاءها. حتى الماضي، ماضيهما الشخصي، لا يتداولان فيه في تلك الجلسات اليومية. جملتان أو ثلاثة فقط قالها كل منهما للتعريف بما كانه قبل أن يصير هنا، في فسحة المقهى. «خلينا نرجع عشغلنا» يقول واحدهما للآخر، فيعود هذا إلى صفحة الكلمات المتقاطعة. يجب أن لا يغفلا عن ذلك، أو أن يتلهّيا، إذ ربما يكسل عقلاهما وهذا ما سيصيبهما بالزهايمر الذي يخافانه. ألوهن في قدم الدكتور، الذي أوقعه على الأرض فيما هو يقوم عن الطاولة، لا يخيف. ألزهايمر يخيف، لهذا يحرصان على ذلك التمرين الذي يبدو كما لو أنه نشاطهما اليومي الوحيد.
إثنان فقط، الجنرال والدكتور، وحدهما. يطّلعان أيضا على صفحة الوفيات في الجريدة، فتخيّبهما إذ لا يجدان أنهما يعرفان أحدا من بين الميّتين المعلن عن أسمائهم. وحيدان وعليهما أن يبقيا هكذا. كل محاولات الجنرال للتقرب من زبائن المقهى العابرين باءت بالفشل. يقوم إلى الطاولة التي جلس حولها هؤلاء ويحكي لهم، بعد استئذانهم، نكتة، أو، بعد استئذانهم مرة أخرى، يحكي لهم نكتة أخرى… ولا يعجب هؤلاء ما سمعوه، بل إنهم رأوا في تقرب الجنرال نوعا من خرف الكهول. «عمتبالغ» يقول له الدكتور، غير قاصد النكات البائخة فقط، بل أيضا لطف الجنرال الزائد وتوزيعه على رواد المقهى حبّات الكراميل التي يحتفظ بالكثير منها في جيبه.
لا شيء يحدث في فيلم «غود مورنينغ» حتى الموت، موت الجنرال في ذلك النهار الأخير، لا يصنع حدثا. ذاك أنه منتظَر، حتى من دون تلك المقدّمات التي منها تلك الرجفة التي فاجأته. لم يحدث شيء، فقط ذلك الكرسي الخالي، بجانب الدكتور الذي صار جالسا لوحده.
فيلم غود مورنينغ هادئ وحساس وبسيط. نصّ سينمائي تتقدّم به، ببطء مقصود تماما، فصولُه التي يحمل كل منها عنوانا، كما في رواية أو كتاب سيرة.
*فيلم «غود مورنينغ» إخراج بهيج حجيج وكتابة رشيد الضعيف وتمثيل غابرييل يمين وعادل شاهين ورودريغ سليمان ومايا داغر.

٭ روائي لبناني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية