اقتحمت شرطة مدينة نيويورك صباح الاثنين الماضي، بطلب من رئاسة جامعة نيويورك، مخيم التضامن مع غزة، بعد أسبوع على إقامته. وهو المخيم الثاني إذ كانت الجامعة قد أزالت المخيم الأول، واعتقلت أساتذة وطلاباً كانوا معتصمين فيه، وأحاطت الموقع بجدران خشبية عالية، لكن تحالف التضامن مع غزة، الذي يتكون من عدد من المجموعات، اختار موضعاً آخر هو عبارة عن ممر واسع بالقرب من إحدى البنايات الرئيسية في الجامعة، ليكون موضعاً للمخيم الجديد.
أغارت الشرطة في السادسة صباحاً، حين كان المعتصمون نائمين في خيمهم. واللافت أن شبكة فوكس نيوز اليمينية، حضرت بكاميرتها ومراسلتها قبل وصول الشرطة، ما يدل على التنسيق المسبق بين رئاسة الجامعة والإعلام والشرطة. نشرت شرطة مدينة نيويورك على حسابها في منصة «إكس» شريطاً مصوراً قصيراً للترويج لعملية الاقتحام، ولتشويه صورة المخيم. واختارت له عنواناً وصيغة تحاكي عناوين الدروس الجامعية الأولية: «عواقب 101» يظهر فيه أحد قادة الشرطة وهو يخاطب عشرات أفراد الشرطة، ويفتخر بأنها ستكون خامس عملية اقتحام لجامعة، ثم أخبر الرجال والنساء بأنهم سيواجهون طلاباً وشباباً «لا يمتلكون القدرة الذهنية ذاتها التي تمتلكونها أنتم!».
لعل ما يفسّر شراسة القمع الذي تعرض له حراك الطلاب ومخيمات التضامن مع غزة هو الحيلولة دون انتشار تأثيرها خارج الحيز الأكاديمي
وفي المشهد الثاني ظهر أحد قادة الشرطة وهو يدخل إلى المخيم، ويشير إلى محتوياته، ثم وقف بالقرب من أكوام من علب قناني المياه (التي كان الطلاب والأساتذة وبعض المارّة قد تبرعوا بها للمخيم خلال الأسبوع) ليؤكد أن كل شيء منظم في المخيم، ولا بد أن ثمة جهة خارجية مسؤولة عن كل هذا التنظيم! ثم اختتم الشريط بمشهد الطلبة الذين رفضوا إخلاء المخيم وهم يقادون إلى سيارات الشرطة. نال الشريط قسطاً غير يسير من السخرية بعد انتشاره، لكنه يصب في الرواية الرسمية التي يروج لها بايدن ورؤساء الجامعات وقيادات الشرطة في أنحاء الولايات المتحدة، وتجتر في وسائل الإعلام السائد. وتدعي هذه الرواية أن مخيمات التضامن مع غزة مخترقة من أفراد وجهات من خارج الجامعات، تتعاون مع الطلاب. كما تحاول تشويه صورتها باتهامها بالعنف والفوضى واللاسامية. في الليلة التي اقتحمت فيها شرطة نيويورك جامعة كولومبيا للمرة الثانية، أجمع الصحافيون والضيوف الذين ظهروا على قناة «سي إن إن» تلك الليلة للتعليق على الأحداث، على أن استدعاء الشرطة وتعاملها العنيف مع الطلاب المعتصمين واعتقالهم، هو القرار الصحيح والمناسب. وتكررت لازمة «جهات خارجية» وأنا أكتب هذه المقالة حين اقتحمت شرطة العاصمة مخيم جامعة جورج واشنطن، الذي ضم طلاباً من ثلاث جامعات.
لا شك في أن هناك شرائح في المجتمع الأمريكي ستقتنع بسردية توحي إليها بأن ما يدفع هؤلاء الطلبة هو طيش الشباب، أو أن هناك من غرر بهم، أو أنهم يتحركون بتأثير قوى خارجية. فهذه العناصر مجتمعة تستدعي الأبوية الكامنة، وتؤجج نظرة استعلائية إلى جيل يقرأ ويقارب الولايات المتحدة وسياساتها الداخلية والخارجية، واقتصادها السياسي بمنظار آخر، ولديه رغبة جامحة في تغييرها بشكل جذري، لا في سياق فلسطين فحسب، وإن كانت الأولوية لها حالياً.
والحق يقال إن التصميم والثبات والنضج الذي أبداه هؤلاء الطلبة يثير الإعجاب والاحترام. شكّلوا عدة لجان تتولى مهام توفير الطعام (وكله من التبرعات من الأساتذة وبعض المطاعم) وتنظيف المخيّم والحفاظ على الأمن والتنسيق الإعلامي كان المخيم بمثابة جامعة مصغرة داخل الجامعة. فهناك برنامج تثقيفي يومي يتضمن حلقات نقاش ومحاضرات عن مواضيع تتنوع بين التاريخ والسياسة والاقتصاد، بالإضافة إلى قراءات شعرية، وعرض أفلام وثائقية على جدار البناية وفقرات موسيقية. وهناك مكتبة متجولة سميّت مكتبة رفعت العرعير، الشاعر والأكاديمي الذي اغتاله الاحتلال الإسرائيلي في 6 ديسمبر /كانون الأول 2023، تتضمن مجموعة من الكتب التي تبرّع بها الأساتذة والطلاب في الأشهر الماضية. بالإضافة إلى التظاهر المستمر والهتافات وتوزيع المناشير على المارة وزوار المخيّم. استقطب المخيم عشرات الطلاب والأساتذة الذين بدأ عدد منهم يأتي بطلابه إلى المخيم للتعلم من هذه التجربة.
ولعل ما يفسّر شراسة القمع الذي تعرض له حراك الطلاب ومخيمات التضامن مع غزة هو الحيلولة دون انتشار تأثيرها خارج الحيز الأكاديمي. واحتمال تقاطعها وتواصلها مع تيارات يسارية، ما قد يساهم في تكوين قاعدة واسعة لحركة سياسية ذات حزمة مطالب تكون قوة مؤثرة مستقبلياً. وهو ما يغضب الطبقات الحاكمة والنخب الاقتصادية والسياسية. قبل أيام طالب أحد أعضاء مجلس أمناء جامعة نيويورك، وهو بليونير، بالاستعانة بمكتب التحريات الفيدرالية (إف بي آي) وقوات مكافحة الإرهاب لقمع مخيمات التضامن. وكرّر لازمة وجود قوى وعناصر خارجية تقف وراء الحراك. هناك من يراهن على أن هذا الحراك سيضعف، خصوصاً أن الفصل الدراسي شارف على الانتهاء، وسينصرف الطلاب ويتفرقون أثناء الصيف، لكن حتى إذا تم التوصل إلى اتفاق لوقف العدوان الهمجي على غزّة، فإن الدعم الذي تقدمه الولايات المتحدة لإسرائيل لن يتوقف. ولن تتوقف استثمارات الجامعات المرتبطة والمتورطة بمصانع الأسلحة ومؤسسات متعاونة مع إسرائيل. وستظل للجامعات الأمريكية فروع في إسرائيل. مما يعني أن الحراك سيستمر لأن المطالب لن تتغير.
كاتب عراقي