عن مستر غوين الذي لا يطيق الشهرة

حجم الخط
0

  • فجأة، بعد أن حقّق شهرة واسعة من رواياته، قرّر جاسبر غوين، ألا يعود إلى القيام باثنين وخمسين شيئا مما كان يفعله، ولكي يلزم نفسه بقراره ذاك، نشر قائمته تلك في صحيفة «الغارديان». معظم ما أراد التوقّف عنه، كما توضح تلك القائمة التي لم يُذكر أكثر بنودها، يتعلّق بالكتابة والكتب. أراد أن يعيش كشخص عادي، وأن لا يتعرّض للالتقاء بأشخاص يسألونه، في ما هو يمشي على الطريق، أو ينتظر في عيادة طبيب الأسنان، «عفوا، هل أنت جاسبر غوين؟».
    لكن لم يكد يمضي وقت على اعتزاله، أو اختبائه، حتى خطر له أن يعود إلى الكتابة. لكن ليس الكتابة التي أوصلته إلى الشهرة. ما أراده هو أن يصير ناسخا، وهذا ما دفع ناشره وصديقه إلى فقد صوابه. ربما أعجبته العبارة (ناسخ) التي بين دلالاتها، إرجاع الكتابة إلى أزمنتها الماضية. وهو، على أي حال، كان قد فكّر كثيرا في الاحتمالات الممكنة لما تعني وظيفة الناسخ. أما ما اهتدى إليه في النهاية فهو نسخ البشر، أفرادا وليس مجموعات.
    بذل أليساندرو باريكو، كاتب الرواية*، الكثير من الجهد ليفسّر لقرّائه ماذا يعني خياره ذاك. أما ما اعتمده لإيضاح ذلك، فالسرد وليس صياغة الأفكار المجرّدة. فهو بدأ تفسيره لما سيقوم به بوصف زيارة قام بها بطلُه جاسبر غوين إلى معرض فني. هناك أذهلت غوين الشخصيات التي تُصوّرُها اللوحات، شبه عارية، ومنزوية على نفسها رغم أن المكان المتخيّل ينبغي أن يكون مزدحما بروّاد كثيرين. أراد الكاتب أن يصل إلى المشاعر والأفكار التي تركتها فيه اللوحات، وأن يوصل مشاعر تماثلها، لكن عبر الكتابة. هذا ما يكسر الحدود التي تفصل طبيعة كل من الفنون، ويهدم القواعد التي تميّز كل فنّ عن سواه طوال تاريخه الطويل. أي أنه أراد أن يرسم لكن بالكتابة. لذلك كان عليه أن يخلق المناخ المكاني، المادي، ذاك المتوافر بداهة للرسام. أما هو فعليه أن يخلقه. أولا أن يكون له استوديو حدّد مواصفاته بدقة: أن يكون واسع المساحة، فارغا تقريبا من الأثاث، ظاهرةً على جدرانه ملامح القدم، إلخ. ثم، لكي يتمّ عزله تماما عن العالم الخارجي، ينبغي أن تٌففل نوافذه وتتردّد فيه الموسيقى «كخلفية صوتية قادرة على أن تتغيّر مثلما يتغيّر الضوء أثناء النهار». أما الإضاءة فأوصى عليها كهربائيا من مسنّي منطقة «كامدن»، ثمانية عشر مصباحا تضيء فترة معينة، كما هي حياة البشر والمخلوقات الأخرى، ثم تنطفئ متدرّجة مصباحا بعد مصباح.
    في الاستوديو راح غوين يستقبل زبائنه الراغبين في أن تُنسخ شخصياتهم، فرادى. الزبون الواحد يأتي، على مدى زمني يقارب الشهر، ليمكث هناك، عاريا، صامتا، يتحرّك، أو لا يتحرّك، تبعا لما يشاء. هؤلاء، ذكور أو إناث، تتنقّل بينهم الرواية، بالتتابع، ما يظهر الاختلاف الجوهري بين واحدهم والآخر، على الرغم من أن «ناسخهم» لم يقرأ إلا الأوضاع المختلفة التي تتخذها أجسامهم العارية.

«مستر غوين» سرد معقّد لشخصية معقّدة، منها يريد الكاتب أن يصل بنا إلى معرفة كم هي مرهقة ومضنية عملية الكتابة. وكم أن الوصول إلى ما يريد الكاتب منها صعب ويرقى احتمال تحققه إلى مرتبة الاستحالة.

في نقل أفكاره عن الكتابة، وهذه تمثّل موضوع الرواية، يتابع أليساندرو باريكو سرده الجانح نحو البوليسية. ما نتابع قراءته هو مزيج من التشويق الروائي والتفكير بالأدب. بالترافق مع اختفاءات بطله المتكرّرة يتضح لقرائه، عبر شخصية ريبيكا، المجهولة دائما طبيعة علاقة البطل بها، في أي عمق من وعيه تُقيم الكتابة. لكن ليصحّ هذا المزج بين النقيضين، التفكير الخالص والسرد المشوّق، كان لا بدّ من الإكثار من التفاصيل، ومن إضافة شخصيات بلا أدوار فعلية، مثل تلك المرأة التي يعرّفها الكاتب بـ»السيدة ذات الوشاح الواقي من المطر». هذه السيدة ظهرت في مطلع الرواية كشخصية واعدة باستمرار الحضور، إلا أنها تحولت بعد ذلك إلى مجرّد محطة تذكّر تظهر بين الحين والآخر، لا تفعل شيئا، لا تبدّل شيئا، لا أكثر من أن تُتذكّر لتختفي.
مستر غوين كاره للشهرة، لكنه وجد طريقة، بل طرقا، ليكتب من دون أن يشتهر. من هذه الطرق مهنة النَسْخ التي كانت تتحصّل منها بروفيلات يكتبها عن زبائنه، وهذه غير متاحة قراءتها إلا للشخص الذي هو موضوعها. بين طرق الاختفاء من الشهرة إصدارُه لكتب بأسماء كتّاب وهميين، بعضهم لقي شهرة، كما أرجع بعضهم إلى أزمنة ماضية فكانت كتبهم، في ما يشيِّع، تُنشر بعد وفاتهم. أما الأشخاص الذين أجرى لهم بروفيلات، في مهنته تلك، فكانوا سيجدون ما كتب عنهم في أعمال تحمل أسماء كتّاب آخرين.
«مستر غوين» سرد معقّد لشخصية معقّدة، منها يريد الكاتب أن يصل بنا إلى معرفة كم هي مرهقة ومضنية عملية الكتابة. وكم أن الوصول إلى ما يريد الكاتب منها صعب ويرقى احتمال تحققه إلى مرتبة الاستحالة. ذاك أن سعي مستر غوين، كما سعي كاتبه أليساندرو باريكو، هو نحو جوهرية الأفراد، كيانيتهم غير المدركة إلا بطول التأمّل، وليس نحو عيشهم اليومي. ذاك أن البشر مكوّنون من أنفسهم ومن أشياء خارجهم. الواحد منا ليس شخصيته فحسب، «لسنا تلك الشخصية فحسب، نحن الغابة التي تسير فيها، والشرير الذي يخدعها، الأصوات المحيطة بها، كل الأشخاص الذين يمرّون، لون الأشياء، الضوضاء». هل من أجل أن يتخلّص مستر غوين من كل هذه الإضافات راح يعزل شخصياته، عراة، مجرّدين من كل ما هو خارجهم، ليمكن له بلوغ جوهرهم؟
*رواية أليساندرو باريكو «مستر غوين» صدرت عن منشورات الجمل بترجمة أماني فوزي حبشي في 200 صفحة، سنة 2021.

كاتب لبناني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية