وفقا للانتفاضات الشعبية التي اظهرت ما اصطلح تسميته اعلاميا بالربيع العربي والذي لم يحقق نجاحات كاملة وفقا لاهداف انتفاضاته وشعاراتها ولا بوصول الرموز الشبابية الفاعلة في مسار الانتفاضات الشعبية الى مقاليد الحكم وفقا لقدرات فائقة لمراكز القوى وحلفائها في الالتفاف على الانتفاضات الشعبية والسيطرة على مسارها بل والانحراف بها نحو اعادة انتاج كثير من رموز النظام السابق وتدوير مواقعهم مع احداث تغييرات شكلانية ومظهرية في بعض من مجالات السياسة ومؤسسات الدولة دون الوصول الى عمق التغيير باهدافه الاجتماعية واحلال نخبة مدنية بكل مظاهرها لتتولى قيادة الدولة والحكومة . ومع ذلك فهذه الانتفاضات كانت مثيرة للدهشة والفزع من قوة الخروج الشعبي بتلقائية ودون سابق تنظيم او قيادة ولا يستطيع احد ان يدعي لنفسه أكان فردا او حزبا اوجماعة بانه خطط او نظم شيئا في مسار الانتفاضات الشعبية بل كان نزول الاحزاب والجماعات لاحقا على تفجر الانتفاضات هنا الاكثر تنظيما وتمويلا هو من سيطر على مسارات الشارع السياسي كالاخوان في مصر ثم العسكر وذاتهم في اليمن مع حلفاء اساسيين مثل القبيلة وبعض الاحزاب المدجنة . وما لا يجوز اغفاله ان هذه الانتفاضات الشعبية احدثت هزات كبيرة بالنظام السياسي العربي داخل جمهوريات الربيع وفي عموم المنطقة العربية. ولاول مرة يخرج شعب مطالبا وبقوة رحيل النظام .. هنا تساءل الحكام وبدهشة عن من يرحل (الرئيس صالح) والاستفسار الانكاري بكلمة من انتم (القذافي) ومحاولة الاستجابة للشارع بمقولة فهمتكم (بن علي) والتردد الناجم عن فقدان القدرة على اتخاذ موقف محدد ومناسب(حسني مبارك)، وجميع هؤلاء لم يتوقعوا للحظة مثل هذا الحشد الشعبي بدرجة اساسية فكانت اجهزتهم الاعلامية تقدم تقارير تؤكد فيها خروج مظاهرات بالعشرات واحيانا بالمئات وهو انكار اعلامي رغم تأكيدات الاجهزة الامنية على حشود الفية ومليونية بل ان رؤساء مثل صالح حلق بطائرة عمودية ليتأكد بنفسه من حجم المظاهرات والحشود الشعبية في ميدان التغيير في العاصمة صنعاء. وكان منظرا مدهشا للرئيس فسأل القيادات الامنية كيف تم هذا الحشد وسط تقارير سابقة تطمئنه بان الشعب كله مع النظام. ومع تزايد العنف الموجه ضد المتظاهرين تزايد الحشد الشعبي وانتقل الى ميادين ومدن متعددة شملت مختلف المدن في اليمن ومصر وتونس . هنا عملت القوى الاقليمية والدولية الامريكية والاوروبية خصوصا مع حلفائها من الاحزاب ومراكز القوى والقادة الكبار من الجيش والامن في وضع الخطط اللازمة لكيفية امتصاص هذا الغضب الشعبي وتغلغل انصار النظام ورموزه بين اوساطهم وفق تنسيق مسبق اخذ شكلا مسرحيا في اليمن وفق استقالات علنية من الحزب الحاكم وانشقاق عسكري مزعوم . ورغم تكتيكات متعددة انتهت بمبادرة لنقل السلطة في اليمن الى نائب الرئيس واقتسام الحكومة مع المعارضة وتنحي مبارك مع فشل خطته في تعيين رئيس الاستخبارات نائبا له لان الشارع المصري لم يقبل بفكرة هذا النائب وشخصه هنا كان الاحتيال بالتنحي وتسليم السلطة لمجلس عسكري ، ولرئيس مؤقت في تونس، وفي هذه البلاد كما في ليبيا التي كان التغيير بضربة عسكرية من حلف الناتو مع مظاهرات شعبية كبيرة لا يمكن نكرانها .. ظهرت حكومات ما بعد التغيير لا تمثل الشباب والثوار او القوى المنادية بالتغيير بل كانت مشكلة في غالبيتها من رموز السياسة والعمل الحزبي في النظام السابق مع اضافة اعداد من القوى الحزبية المعارضة والنقابية ايضا . في هذا السياق حدث اهتزاز في منظومة الحكم في الدولة والحكومة بل وفي الاحزاب المعارضة وفي عموم المجتمع لان تداعيات الانتفاضات الشعبية وما لحقها من فوضى امنية وعسكرية وتعقيدات المشهد السياسي والازمات الاقتصادية كل هذا كان نتيجة مباشرة للانتفاضات التي ارعبت مراكز القوى وحلفائها وكان لابد من اغراق المجتمعات في ازمات متداخلة ومخيفة امنيا واقتصاديا وكان شرط معالجتها ان تتوافق الاحزاب والمكونات السياسية على حكومات شراكة ظهرت معها جماعات واحزاب لاول مرة في مقاعد السلطة. ولان القوى المهيمنة عسكريا وحزبيا مع حلفائها من الخارج ارادوا اكتساب المزيد من الوقت لاعادة ترتيب اوراقهم واعاة انتاج مواقع رموزهم وممثليهم في دوائر صنع القرار تمكنوا من ذلك وفق دورهم في فشل الحكومات تحقيق قدر من الاستقرار السياسي والاقتصادي بل وتزايدت المخاوف من الانهيار الامني وشيوع الاغتيالات الفردية والجماعية. ومع كل ذلك يجري حاليا بعض التغيير من زاوية اعادة انتاج مراكز القوى وحلفائها مع تجميل المشهد السياسي باعداد محدودة من الشباب ورموز الحركة النقابية والاحزاب الصغيرة زد على ذلك اعتماد اجراءات جيدة في اعداد الدساتير وهي عملية كانت مطلوبة حتى بدون انتفاضات. واليوم يكتمل المشهد الكرنفالي بما يقال انه انتخابات رئاسية في مصر مع غلبة واضحة لمرشح تم الاصطفاف له ومعه من قبل ترشيحه، وذات اللعبة تمت وفق منظور مسرحي في اليمن بالتصويت لشخص واحد دون منافسين له وسبق ذلك الترشح وفق تعدد الاشخاص في مصر مع التهديد والوعيد من جماعة الاخوان وانتهازية القوى الاخرى التي هرولت نحو دعم هذا المرشح في دورة الاعادة مقابل وعود بفتات المناصب التي تنكرت لها الجماعة فور اعلان فوز مرشحها. وهكذا اظهرت كل التداعيات المصاحبة للانتفاضات الشعبية قوة العسكر كطرف سياسي فاعل ومقرر مع الجماعات والاحزاب التقليدية المتحالفة مع العسكر والخارج الاقليمي والدولي. وهذا الاخير كان له دور كبير من خلال التلويح بقيمة المساعدات وحجم التمويل اللازم للانتعاش الاقتصادي. وهنا جاء دور بلدان الخليج ذات الثراء النفطي بتوحد مواقفها اول الامر في دعم مسار التغيير السياسي ثم التلويح بمليارات الدعم وفق عمليتي الاقراض والمساعدات ثم اختلاف هذه المواقف وفق تغيير نوعي في مسار الثورة المصرية وفق خروج شعبي كبير ازاح الاخوان وانهى وجودهم السياسي وهو مطلب لقى هوى عند السعودية والامارات تحديدا وهنا كان الفراق مع قطر . ومع ان مجمل المتغيرات الاقليمية قد افرزت تغييرات مباشرة في بنية السلطة في دول الخليج بدءا من عام 90 وما افرزه التحول العالمي من ثنائية القطبية الى احاديتها وفق النموذج الرأسمالي بنسخته الامريكية والترويج له من مثقفين قالوا بانتصار الرأسمالية حينا، وبانتهاء التاريخ حينا اخر ، لكن النقطة الحاسمة كانت حرب الخليج الاولى ثم احداث سبتمبر ، هنا فُرض على الخليج ادوار محددة سياسيا ولوجستيا في داخل بلدانها وفي دعم ذات المشروع الامريكي اقليميا. فكان بروز الدور القطري المنافس بقوة للدور السعودي، ثم اجراء تغيير سريع في قيادة دولة قطر اثر سلبا في خلق اهتزازات صغيرة داخل دول الخليج الاخرى التي خشيت من تكرار التغيير في بنية السلطة. وفي مجمل المشهد الاقليمي كانت الارتدادات تصل الى كل دول الخليج وتحاول الاسر الحاكمة امتصاصها وفق اساليب متعددة بزيادة الرواتب ضعفين خلال خمس سنوات وتقديم تسهيلات واعفاءات للبعض من المعسرين وزيادة الحريات الصحافية واجراء انتخابات بلدية في السعودية وتعيين نساء لاول مرة في مجلس الشورى والدعوة الى حوارات مع المعارضة . لكن النقطة الاهم وهي محل نقد حتى من اصدقاء السعودية الاشارة المتكررة الى ضعف فاعلية وحضور الصف الاول من قيادة المملكة لكبر السن ومرضهم المزمن، وتطلع شباب الاسرة وكلهم من المتعلمين والمؤهلين مدنيا وعسكريا وامنيا ، ومحل ثقة لدى الامريكان، ناهيك عن بروز علني للصراع بين الابناء وتطلعاتهم في صناعة القرار السياسي. هنا تأتي التغييرات تدريجية من خلال تعيين ولي للعهد ثم ولي لولي العهد، ثم تنقلات في بعض الوزارات والمحافظين وكلها يتم تبريرها بحكمة الملك وتحقيقا للاستقرار. وهنا الاشارة الى استقرار الاسرة المالكة من ارتداد الهزات الاقليمية ومنع تفجر بؤر اهتزازية محلية، فالواقع الاجتماعي السياسي يتسم بالانسداد وعدم وجود فضاءات مشرعنة للتعبير ضمن مكونات حزبية او جمعوية. لكن التعبيرات المجتمعية بشكل مجموعات مناصحة للملك وتقديم العرائض واحيانا المسيرات من النساء في مطلب ترفي يظهرن اندفاعا بين الحين والاخر نحو قيادة السيارات في بعض شوارع المدن الرئيسية ناهيك عن المطالبة بالغاء لجنة المطاوعة (الامر بالمعروف) لانها تعمل في تفتيش ممارسات الافراد الخاصة . والتغيير ذاته جرى بقليل من الصخب في مسقط والامارات وبصخب متوسط في الكويت من خلال لعبة الانتخابات التي تتحكم بها الاسرة المالكة وبصخب عال في البحرين بل وكلفة بشرية كبيرة . وهنا نؤكد حقيقة تم تجاهلها سنوات طوال من قبل الحكومات الخليجية واعلامها الذي يردد بان شبابهم ومجتمعاتهم غير المجتمعات والشباب الاخرى في بقية الدول العربية وهو تبرير غير منطقي وغير علمي وينم عن جهل بسوسيولوجيا المجتمع الخليجي وتكويناته وبمجمل المكتسبات التحديثية التي تشكلت تدريجيا خلال اربعة عقود وحان الوقت لتعبر عن ذاتها اجتماعيا وطبقيا ناهيك عن مشاريعها السياسية. ودرءا للصراع بين الابناء وفقا للمخاطر الصحية للملك وولي عهده كان القرار الاخير بولي عهد ولي عهد الملك وهو اجراء احترازي واجب النفاذ وفق نظام العائلة المتوافق عليه وهو تعبير عن تخوف احتمالي من ارتدادات الهزات السياسية خاصة وان دول الخليج سيكون موجها نحوها ثأر سياسي لا نعلم مداه ولا طبيعته من دول وجماعات واحزاب بل ودول رأت في مواقف تلك الحكومات انها في صف المعارضة كحالة النظام السوري وحزب الله والصراع العلني بين الحكومة العراقية والسعودية والامارات. ولكن تبقى الازمة كامنة في بنية الدولة الخليجية وهي دولة غير مكتملة النمو المؤسسي والتنظيمي وفق مشروعية شعبية ودستورية ناهيك عن ان الازمة قد تغلغلت في بنية الدولة والمجتمع الخليجي واصبحت تظهر بين الحين والاخر وهي محل اعتراف ضمني من النخبة الحاكمة واعتراف علني من المجتمع، ومن هنا فان اعادة بناء الدولة في منطقة الشرق الاوسط وفق هندسة سياسية تعتمد المنظور الامريكي والغربي لا تستثني دول الخليج التي سيطالها هذا التغيير ذو الدوافع الخارجية اكثر من فاعلية الدوافع المحلية. وربما نشهد ظهورا لملكية دستورية في السعودية مع حضور جيل الشباب من الابناء وهم في ذات الوقت اصدقاء للادارة الامريكية. وللعلم ايضا لابد من الاشارة الى ان في المملكة من شباب الاسرة المالكة او من عامة الشعب اعدادكثيرة من الجيل الجديد تلقى تعليما عاليا في مختلف جامعات امريكا واوروبا والجامعات العربية وهم مؤهلون ليشكلوا نمطا جديدا من الادارة في النظام السعودي وهو امر لابد من الاعتراف به لان البعثات السعودية الى الخارج طيلة اربعة عقود اظهرت جيلا متعددا في مؤهلاته ومعارفه ومطلعا على خبرات متنوعة ويبقى الامر منوطا بالملك في كيفية الاستفادة من هؤلاء وتمكينهم سياسيا.