لا تحمل مقابلة بشار الأسد مع الصحافي الروسي سولوفيوف، لأول وهلة، أية أهمية خاصة تجعل المرء يخصص لها مقالته العزيزة. وقد اهتمّ بها السوريون من خلال وسائل التواصل الاجتماعي وشبكة الإنترنت. رغم ذلك، ينبغي عدم الاستسلام واستسهال الرفض واستعمال الكلمات الأقرب إلى المتناول، رغم ما تحمله المقابلة ذاتها من المحرّضات على معاملة كتلك.
لا بأس أولاً بتقديم «فلاشات» مختارة من تلك المقابلة، لتسهيل التقاط الموضوع:
في البداية عبّر الصحافي الروسي عن فخره بكونه في سوريا «البلد الذي اختار قدرَه بنفسه» ثمّ ابتدأ التفاعل، الذي كانت حصة الصحافي منه لا تقلّ كثيراً عن «حصة الأسد»:
قال الأول، إن العرب خلال أربعين عاماً على الأقل لا يصدرون إلّا البيانات؛ والغرب يكذب. وقال الثاني نحن ننشر الحقيقة أولاً، ونمارس الشفافية ثانياً، كما أن العودة إلى التاريخ تُظهر أنه غير مسموح لروسيا أن تكون قوية منذ عهد بطرس الأكبر. الجيل الجديد ينسى أن بلده مستهدف عبر التاريخ، ليرتاح. حواراتنا تعتمد على الحقيقة، في حين يعتمد الغرب على الكذب. أيضاً: القضاء على الشعب يكون من خلال الليبرالية الحديثة، هذه تفكك العائلة، التي يتفكك الوطن بتفككها. وحول الانتخابات الرئاسية الروسية – التي يبدو أنها في أساس تلك المقابلة – قال الأسد إن روسيا دولة يتوقّف عليها مصير العالم ـ وليس أوكرانيا وحدها – وبلد في هذه الوضعية ليس مستعداً لتغيير قيادته. وقال إن لدينا «مثلاً عربياً» يقول «لا تبدّل أحصنتك خلال المعركة». فالأولوية لخدمة المعركة، وبوتين هو الأساسي في تلك المعركة وقراراتها. بالنسبة لنا روسيا تقف معنا. نحن نتأثّر، وبالنسبة لنا فإن انتخاباتها موضوع داخلي.. وجود بوتين وغيابه يؤثّران علينا، لذلك نحن مع التجديد له، لأن ذلك يضمن استمرار الدور القوي لروسيا…
وحين قال مع ضحكة متفجّرة، إن هذا رأي شخصي وليس تدخّلاً في الانتخابات، طمأنه محاوره مشيراً إلى أهمية رأي الأسد في الموضوع. في السياق نفسه شغل الغرب جزءاً مهماً من الحديث. وسَخر الصحافي في أحد أسئلته من المسؤولين الأوروبيين مثل، بوريل وشولتس وفان ديرلاين، بأنهم لا يتحدثّون بلغتهم الأم، بل بالإنكليزية، ومن ماكرون الذي نصفه ديغول وثلثه نابليون، ومن غيرهم. هنا صحح له الأسد مفهومه بأنه في الغرب لا توجد سياسة هنالك مصالح وحسب، والشركات – واللوبيات والبنوك – هي التي تحدّد السياسات. قال إن الرؤساء في الغرب هم مجرّد مديرين تنفيذيين لا يملكون القرار، بل إن المالكين في مجلس الإدارة، حتى إن ترامب عندما قام بضربته لسوريا كان يثبت حسن سلوكه «للشركة». المنظومة لديهم هي بيع وشراء، ولا يقبلون شريكاً، لذلك لن تصل إلى نتيجة معه. وأي علاقة مع الغرب مؤقتة، يمكن أن يحصل لك ما حصل مع شاه إيران، حين استغنى الغرب عنه ورموه في سلة المهملات. الغرب مضحك وغبي.
قال الأسد إن كوبا وسوريا محاصرتان منذ عقود.. ولا يدرك الغرب أنه المحاصر، وأن الدولار سيفقد قيمته بسبب ذلك الحصار، الأمر الذي يحقق مصالحنا، والأفضل أن يستمروا بالحصار
حول العقوبات والحصار، قال الأسد إن كوبا وسوريا محاصرتان منذ عقود ومعهما إيران وكوريا الشمالية وروسيا، وحتى الصين! لا يدرك الغرب أنه المحاصر، وأن الدولار سيفقد قيمته بسبب ذلك الحصار، الأمر الذي يحقق مصالحنا، والأفضل أن يستمروا بالحصار. تستهدف العقوبات المواطن الغربي المسكين – وبضحكة مجلجلة- ويعتقدون أن بوتين لا ينام ليلاً بسبب تلك العقوبات.
كعادته، أعطى درسين في نهايات حديثه، أولهما: «حين تقف مع المسائل الوطنية سيدعمك شعبك»، وثانيهما: «لا تتنازل عن مصالح الوطن مقابل الدعم الخارجي». إضافة إلى انتخابات بوتين وتصويته فيها وأهمية التجديد له وعدم تغيير الخيل في غمرة الحرب، تحدّث الأسد عن الغرب وديمقراطيته المزعومة المتركّزة في صندوق الاقتراع، وعن غياب السياسة عن سياساته، وعن سلاح «الليبرالية الحديثة» الذي يستخدمه بدلاً من التاريخ، وعن الدور الإيجابي للعقوبات والحصار الاقتصادي؛ وأخيراً عن مقولة «تبديل الخيل» المذكورة.
في النقطة الأولى: باعتبار أن الديمقراطية ذات بابين هما حقوق الإنسان والحريات الأساسية من جهة وصندوق الاقتراع من جهة ثانية، فقد طالَبَنا – نحن السوريين «الآخرين»- خصوصاً بالباب الأول منذ فجر انقلاب البعث، وديمقراطية الغرب لا تتركّز على أحدهما دون الآخر على الإطلاق، هذا جهل على الأقل. كنا نعتبر أيضاً أن غياب السياسة أو تغييبها سمة الحكم الأسدي الأبرز.
وفي النقطة الثانية: يضع الأسد الليبرالية الحديثة في مواجهة التاريخ والتقاليد، وهذا دأب خصوم الحرية والحداثة والجديد عموماً في السياسات المعاصرة دائماً، الرجعية الثابتة المحافظة التي تستديم الهيمنة القائمة. أما في النقطة الثالثة: فليت السوريين يسمعونها ويقرؤونها، بعد أن كان يتمّ تفسير بؤسهم وفاقتهم لهم بتلك العقوبات وذلك الحصار الاقتصادي.. ليتهم يسجلون على لسان المعنيّ مباشرة ترحيبه بهما، لأنّهما يبشّران بانتصاره المقبل على الأعداء في الداخل والخارج.
وفي الرابعة: كانت الإضافة المهمة الأساسية في مناسبة المقابلة هي دعم بوتين و»انتخابه» قريبا. هنا لا يجوز» تبديل الخيل في المعركة». وذلك ليس مثلا عربيا بالمناسبة، بل هو مأثور ظهر على لسان إبراهام لنكولن بمناسبة الانتخابات وتبديل بعض الجنرالات في فترة الحرب الأهلية الأمريكية. قال لنكولن يومها «لا تبدل خيلك في منتصف الطريق»، ملمّحاً إلى نكتة شهيرة حول رجل يقطع النهر، لا مجال لذكرها هنا. لا يريد الأسد بذلك أن يتطرّق أحد إلى «تغيير الخيل» في الانتخابات الروسية، ولا في أية مناسبة سورية. والخطأ العابر باستبدال «الطريق» و»النهر» بـ»المعركة» مجرّد إرث تاريخي لكون سوريا في حالة حرب دائمة، لا تُستبدل الخيل في غمارها، بل تثبت «إلى الأبد».
يستحق الموضوع أن نوليه أهمية ونعالجه أو نفكّكه، لأنّه «تاريخي» من كثير من النواحي الواجب إبرازها وتسجيلها، على الرغم من ورودها في مقابلة منخفضة المستوى بامتياز، حتى عند مقارنتها مع مقابلات الأسد وخطاباته القديمة، منذ خطابه الأول الذي باع به الوهم للسوريين عند تولّيه الأمر، إلى مقابلته السابقة مع التلفزيون الصيني منذ بضعة أشهر. وهذا يؤكّد «وظيفية» تلك الأطروحات وتحولاتها من دون ضوابط مفترضة في دولة قائمة وحُكم طال ووصل الصدأ إلى أعماقه. جاءت مقابلته «الصينية» في إطار دعوته إلى هناك بمناسبة رياضية، وكانت هادئة، تحدّث فيها عن الأثر المدمّر- وليس المفيد – للعقوبات والحصار الاقتصادي، على سبيل المثال لا الحصر كما يقال. نصل إلى حيث نضطرّ إلى الإشارة إلى نقطة أخرى، كانت السبب في أن المقابلة بمسارها ومحتواها كانت محطّ «خجل» لكثير من السوريين، ومبعث تجاهل وإشاحة بالعين بعيداً عنها. تلك هي توليفة المقابلة وشخصية الصحافي الذي قادها وتحكّم بسياقها: فلاديمير سولوفيوف، الشهير بسلاطة لسانه، وتغيّر مواقفه من دون أيّ تردّد، وبكونه المثال الأبرز على البروباغندا الروسية أو البوتينية.. ظهر ذلك خصوصاً في موضوع حرب أوكرانيا، التي ساقه الحديث في مقابلته مع الأسد إلى مقارنتها بغزّة، وإلى مزدوجة أوكرانيا/ فلسطين، التي نعرف استخداماتها جيداً نحن العرب، أو نحن السوريين!
في صفحة «مقابلات السيد الرئيس» في موقع وزارة الخارجية السورية، لم يجر تحميل المقابلة، مع ملاحظة أن تلك الصفحة توقفت عن تحميل أي نص منذ أواخر 2019. وفي حساب رئاسة الجمهورية على موقع إكس أو تويتر، ورد مقتطفان صغيران منها فقط، أحدهما يفسّر فيه الأسد خلفيّات ومبرّرات «طوفان الأقصى»، وثانيهما يسأل سولوفيوف فيه عن ردّ الفعل العربي على حرب غزة، الذي لم ير منه إلّا ما يقوم به الحوثيون» أنصار الله»!
كاتب سوري