مع الأحداث الكبرى تجد بعض الكتاب يهللون أنهم تنبأوا بما جرى في رواياتهم أو قصائدهم. وأنا لست ضد ذلك بالطبع، لكن سؤالي هل كان الكاتب وهو يكتب ذلك يعرف أنه يتنبأ؟ الإجابة لا. الكاتب ليس بالعرّاف، وإلا مشى المفلسون منهم وما أكثرهم، مثل نساء الغجر اللاتي لم نعد نراهن في بلادنا، وكنّ يمشين زمان، وهن يحملن بضع خرزات ينادينك لتعرف ما ينتظرك، بعد أن ينظرن في كف يدك. كنت أسعد بهن جدا وأعرف أنهن كاذبات، وأكثر من كان وما زال يسعد وإن بغيرهن، هم الأحباء الجالسون على الشواطئ، أو في الحدائق أو يتنزهون في الميادين.
طبعا تعرف العرافة أن من يقف أمامها هما اثنان من الأحبة، بدون أن تسأل فتقول لهما ما يسعدهما، على عكس ما تقوله لو كان الشخص وحيدا، فنظرة إلى وجهه تعرف قلقه أو رضاه، فإذا كان قلقا تبشره بالخير، وإذا كان راضيا تضعه في امتحان، ففي انتظاره شيء لا تراه، لكن سيكون كبيرا.. بعدها يدخل القلق روح المسكين في الانتظار لما لا يعرف.
أكثر ما قرأت لبعض الكتاب عن نبوءاتهم، كان بعد ثورات الربيع العربي، ونزول الشعوب في الميادين، وأول من سمعت عنهم من قبل من المتنبئين كان أمل دنقل في قصيدته «كلمات سبارتاكوس الأخيرة»، التي ينذر فيها الحاكم بصيف قد يأتي يجف فيه الشجر. لكنه في القصيدة نفسها يقول «لا تحلموا بعالم سعيد فخلف كل قيصر يموت قيصر جديد». وربما كانت هذه هي النبوءة الأكبر في عالمنا العربي، وليست هزيمة 1967 التي جرت في الصيف. السؤال هل كان أمل دنقل يعرف أنه يتنبأ، والإجابة (لا) فالكاتب كما قلت ليس بالعرّاف، إذن من أين يأتي التنبؤ؟
كل كاتب موهوب ينشد عالما أفضل وهو يكتب.. كل كاتب موهوب في الأصل غير متوافق مع ما حوله. الكتّاب الذين يشعرون بالرضا هم متوسطو الموهبة، وهؤلاء عادة بعيدون عن الإبداع، وحتى إن أبدعوا في الشعر والرواية والقصة لا يتطورون. كل ما يفوزون به هم أصدقاؤهم على الفيسبوك، الذين يصفونهم دائما بالكاتب الكبير. الصدق الفني والمعرفة العميقة بالواقع تجعل الموهوب أحيانا يصدح بما يمكن أن يأتي، لكنه عادة لا يكون على دراية بذلك، هو استشراف لأن مشاعره تسبق ما حولها.
يوما أثناء حرب الكويت الأولي عام 1991جاءني كاتب شاب يحمل روايتي «بيت الياسمين»، مندهشا جدا، وكانت قد صدرت عام 1986 ويطلعني على صفحة يقول فيها أحد الأبطال لزميلة «حتقوم حرب في الكويت والبترول يولع». كان ذلك قبل الغزو العراقي للكويت بخمس سنوات. كيف كتبت ذلك؟ ببساطة لأن شخصا في الرواية يحلم أن يسافر إلى الكويت، ولا يكف عن الكلام عن رغبته ومعاناته في مصر، حتى ملّ منه أحد أبطال الرواية فقال له «كف عن الحديث، ستقوم حرب في الكويت والبترول يولّع». تصرف عادي جدا من شخص شعر بالملل من حديث الآخر، الذي جعل حياته كلها هي حلم السفر للكويت.
كثر ما قرأت لبعض الكتاب عن نبوءاتهم، كان بعد ثورات الربيع العربي، ونزول الشعوب في الميادين، وأول من سمعت عنهم من قبل من المتنبئين كان أمل دنقل في قصيدته «كلمات سبارتاكوس الأخيرة»، التي ينذر فيها الحاكم بصيف قد يأتي يجف فيه الشجر.
لقد جعلني هذا الحديث المتكرر عن التنبؤ، استرجع بعض المواقف التي كتبتها، والتي قيل عني فيها إني تنبأت بالخراب بينما أنا أبتسم. عام 1992 كنت أنشر روايتي القصيرة «قناديل البحر» مسلسلة في مجلة «نصف الدنيا»، كنت قد أعطيتها لهم بخط يدي، وكنت أذهب كل أسبوع أراجع البروفة بنفسي. يوما ما وأنا أصعد السلم إلى المجلة، وكانت في مبنى صغير غير الموجود الآن، حدث الزلزال الشهير، رأيت الكل يفرّ إلى الشارع فلم أكمل الصعود وهرولت نازلا مثلهم لأرى الشوارع مزدحمة بالفارين من أعمالهم ومكاتبهم ومن صحيفتي «الأهرام» و»الأخبار» القريبتين من بعضهما.. عرفت أنه زلزال. في اليوم التالي ذهبت لأراجع البروفة فوجدت مونولوجا لبطل الرواية يقول فيه «هذه البلاد التي تسمى مصر والتي تقع في الجزء الشمالي الشرقي من قارة افريقيا سوف تتعرض لحركات تكتونية عنيفة تهز الأرض والجبال إلخ إلخ»، اندهشت جدا لأن الحركات التكتونية هي الزلازل والتغيرات العنيفة في الأرض. وببساطة أدركت أنه مونولوج البطل لأنه يشعر بالاغتراب الشديد. فهو مقاتل من حرب أكتوبر/تشرين الأول يرى الأمور تمشي عكس ما كانوا يتوقعون من رغد وعيش كريم. الصدق الفني هو الذي كان وراء مونولوج البطل. ولم أكن متنبئا ولا عرّافا وإلا كنت ميشيل دي نوتردام «نوستراداموس» الطبيب الفرنسي الشهير في القرن السادس عشر، الذي ترك وراءه كتابه «التنبؤات العظمى»، أو كعراف نجد واليمامة، اللذين قال فيهما عروة بن حزام صاحب قصة الحب الشهيرة مع عفراء بنت عقال «جعلت لعراف اليمامة حكمة وعراف نجد إن هما شفياني».
قبل ذلك بكثير وفي عام 1975نشرت قصة قصيرة في مجلة «الطليعة» المصرية بعنوان «تعليقات من الحرب» فيها جنديان محاصران في الجيش الثالث، وهو الحصار الذي تم فضه بعد محادثات الكيلو 101، التي كانت محادثات عسكرية تحت إشراف الأمم المتحدة بعد توقف القتال. الجنديان يتحدثان في الليل في خندقهما، عما فعله الجيش المصري من بطولات عظيمة فقال أحدهما «بعد أن تنتهي الحرب ونعود إلى بلادنا، سيأتي مقاولون وتجار خردة يفوزون بكل شيء» وهذا ما حدث. كنت أعرف سياسة الرئيس السادات وأفهمها وقت كتابة القصة، لا وقت أحداثها، وكان قد بدأ الحديث عن سياسة الانفتاح الاقتصادي، التي نعاني من خرابها حتي الآن لأنها كانت انفتاحا لم تقترن به حياة ديمقراطية، كانت تخريبا لاقتصاد الأمة، ووصفها المرحوم أحمد بهاء الدين بالانفتاح سداح مداح. بعد ذلك بسنوات طويلة نشرت رواية «في كل أسبوع يوم جمعة» عام 2009 قبل ثورة يناير/كانون الثاني بعامين، وكان يوم الجمعة في الرواية يوم النهايات والبدايات، وكانت أيام الجمع في وقت الثورة وبعدها يوم الأمل، ويوم التضحيات، وامتلأ الفيسبوك بالإشارات لي «في كل أسبوع يوم جمعة يا إبراهيم». كان سبب الاختيار هو أن يوم الجمعة حقيقة في تراثنا يوم للنهايات والبدايات، وكما فيه ساعة صلاة عظيمة ففيه في التراث الشعبي المصري ساعة نحس، فهو يوم مقتل الحسين بن علي، ونحن في مصر سُنّة لكن محبتنا لأبناء علي بن أبي طالب عظيمة، ويقال إنه يوم صلب المسيح عليه السلام، وتاريخنا القبطي لا يغادر أرواحنا كمسلمين في مصر، حتي لو أعلن البعض غير ذلك. توافق الأمر مع ثورة يناير، لكنني كنت متوافقا في الكتابة مع المعني التراثي لليوم.. ولا أريد أن أتحدث عن مواقف أخرى، حتى لا يتهمني أحد بأني وراء ما يحدث. لقد قلت مرة ضاحكا في إحدى الندوات، إني كتبت رواية «لا أحد ينام في الإسكندرية» حتى إذا وقعت نبوءة ما تقع بعيدا عنا هناك في الأربعينيات أثناء الحرب العالمية الثانية زمن الرواية. الكتّاب كما قلت لا يقصدون التنبؤ، لكنه الصدق الفني وصدق الشعور بما يكتبون، وخوفهم من الظلام وحنينهم إلى النور، يأتي بالنبوءات التي لا يعرفها الكاتب إلا بعد أن تحدث.
٭ روائي مصري
مع أني كنت من أوائل معارضي السادات بسبب كامب ديفيد إلا إنه لايمكن مقارنته بمن أضاع الأرض والعرض ، وحكم الناس بالحديد والنار والسجن الحربي، وأتاح الفرصة للضباط الملوك كي يعيثوا في الأرض فسادا ونهبا وتخريبا. السادات مع أنه عسكري وأنا لا أحب العساكر الملوك هو اول من اتخذ قرارا بشن الحرب على الغزاة وتم العبور بفضل الله، ثم بفضل الضباط المحترفين من أمثال الشاذلي والجمسي وأبوسعدة. أما الانفتاح فكان ضرورة بعد الإغلاق الغبي، ولكنه جاء غير منظم. يسقط حكم العساكر وأتباع حكم العساكر.
من باع الارض والعرض وهو من قبله الامتداد الطبيعى للسادات، وما قام به السادات ليس انفتاحا اقتصاديا لمن نهبوا ومازالوا ينهبون مصر.
نتمى الا يفارق كتابنا الكرام الصدق الفني و صدق الشعور
–
فلا نريد منهم نبوءات و لكن اعملا تجعل للكلمة حضور
–
في زمن قل من يثمنها شكرا
–
تحياتي