من نهاية كانون الثاني/يناير 2019، وحتى بدايات هذا الشهر، أقيم معرض القاهرة الدولي للكتاب، وهو معرض سنوي ضخم وله جذور حفرت عميقا، ويحتفي بكل أنواع الكتابة، والكتاب، ويزوره مئات الناشرين وعشرات الآلاف من الزوار، يأتي بعضهم خصيصا من دول أخرى مجاورة أو بعيدة.
هذا المعرض إضافة إلى أنه سوق قوية للكتاب، فهو أيضا مكان للترفيه، ومكان للقاءات المثقفة، والفعاليات المتعددة التي تقام يوميا وفي كل الأوقات، وما على الذي يريد التفاعل سوى أن ينتقي الفعالية التي يود حضورها، من برنامج المعرض، وينغمس فيها.
وفي العام الماضي، تغير موقع المعرض إلى مكان بعيد، وكان من المتوقع أن تخف الزيارة إليه، لكن ذلك لم يحدث، وكان بالفعل مزدحما، وأيضا به نشاط تجاري كبير تمثل في المقاهي المنتشرة على امتداد المكان، وهو شيء جديد على معارض الكتب العربية، أن لا تحصر تجارتها في الكتب فقط، وتمتد تلك التجارة للمقاهي المريحة ودكاكين الحلويات والزهور والهدايا الأخرى. وشهدت ذلك في معرض الدوحة هذا العام، وكان بالفعل معرضا أنيقا، سلسا، ومبهجا للتجول فيه والتسوق منه، والجلوس للاستراحة في أماكن أنيقة، ومتنوعة.
الذي لفت نظري هذا العام في معرض القاهرة، أن هناك تقليدا جديدا للكتاب، وهو أن ينتظر الكاتب والناشر معا، قرب معرض الكتاب ليصدر كتاب ما، ويعلن عن تدشينه وحفل توقيعه من قبل الكاتب في معرض الكتاب. أيضا يتجه الكتاب غير المصريين إلى هناك لتوقيع كتبهم التي قد تكون صدرت في وقت ما خلال السنة، إما في مصر أو في أماكن أخرى، باعتبار أن التوقيع في مصر أكثر وقعا، وربما يشد جمهورا أكثر، ويصب ذلك في مصلحة الكتاب.
وبالرغم من أن معارض الكتب العربية كلها، أصبحت مسرحا لهستيريا التوقيع، والاحتفال بالكتاب، ودعوة الأهل والأصدقاء لحضور التدشين، يبدو أن الكاتب لن يكتفي بذلك. وتحدث تلك الرحلة الموسمية إلى معرض القاهرة، لدعم الكتاب من مؤلفه، ولا أدري إن كانت تلك الرحلات ناجحة، أم مجرد سخاء معنوي من مؤلف أراد ذلك السخاء، وتوقع أن ينال مثله من جمهور ربما يأتي وربما لا يأتي فعلا.
في العام الماضي كنت ضيفا على معرض القاهرة لتقديم شهادة عن جزء من التجربة، وكان لا بد من حفل توقيع لي على آخر الكتب، وأيضا حضور حفلات توقيع لأصدقاء عديدين، إما دعوني وإما صادفت حفلاتهم وأنا في المعرض.
كانت المشاهد كارثية، في كل جناح من الأجنحة المتراصة، إما واسعة وإما ضيقة، ثمة من يوقع لآخرين، أو يجلس صامتا، يشع الأسى من ملامحه، وينتظر من يأتي ليوقع له.
أحيانا تجد باقة زهور موضوعة على الطاولة بجانب الكتب، أحيانا تجد علبة حلوى غالية أو رخيصة، وأحيانا تجد شخصا مسنا ربما كان أبا للكاتب، ينتظر مجدا غامضا لابنه المبدع.
وقد كانت تلك الكآبة الصامتة تذكرني ببداياتي، حيث جلست في التسعينيات من القرن الماضي، وقبل أن يتعرف الناس على حفلات التوقيع، في جناح دار سودانية، نشرت لي رواية اسمها “عواء المهاجر”. جلست متأنقا، ومتوترا وفي جيبي قلم غال، أنتظر جمهور القراء الذين سيتقاطرون حسب ظني، وانتهت ساعتا الانتظار بتوقيع واحد لشاب سوداني، ناداه الناشر من ممرات المعرض، ومنحه نسخة مجانية من أجل صورة مع الكاتب، ووافق، ولا أظنه قرأ الكتاب، والأرجح أنه ألقاه في مكان ما أو وضعه على رف مغبر في مكتبة منزلية.
قلت إنني جلست لأوقع في معرض القاهرة في العام الماضي، وجاءني من أوقع له، لحسن الحظ، جاء أصدقاء، وغرباء أيضا، لكن ليس التوقيع الذي يمكن أن يوقعه كاتب غربي، في العمر نفسه، وحجم ما أنتجه. لكن لا بأس، هو العالم العربي الذي ننتمي إليه، وله تقاليده الخاصة في صناعة الإحباط بشتى أحجامه وألوانه، وإحباط المبدعين جزء من تلك الخطة الموضوعة دائما.
قلت إنني حضرت توقيعات أيضا، وقفت أمام المبدع أو المبدعة واشتريت نسختي ومددتها للتوقيع، وحصلت عليه. وحقيقة كانت ثمة مبالغات هنا، تلك المبالغات التي تنشأ من الاكتئاب الطارئ، بعدم جدوى أي شيء، وذلك حين وقفت مرة مع كاتب أعرفه ساعة لم يوقع فيها إلا لشخصين فقط وظلت نسخ الكتاب متراكمة أمامه. التقط صورا للشخصين، ونشر على صفحته في فيسبوك في اليوم التالي صور الشخصين مع الكتاب، وكلاما عن نفاد نسخ كتابه من المعرض، وأن الناشر سيقوم بإحضار نسخ أخرى على عجل.
وقد غضب مني شاعر أعرفه حين سألته وقد طالت وقفتنا أمام ديوانه الراكد:
أين جمهورك الذي سيقتني الكتاب؟
إذن أعود لمسألة الإحباط السنوي في المعارض، واتباع خطوات الهستيريا لتفعيل ذلك الإحباط:
لماذا يقيد الكتاب بمعارض الكتب؟ لماذا لا ينشر حرا، ويترك حرا يتجول في ما تبقى من أسواق الكتب، ربما يصادف مشتريا؟ ولماذا لا تنتهي حفلات التوقيع في أجنحة الناشرين، ويدشن الكتاب في حفل خاص في قاعة، ويحضر من أراد الحضور؟
حتى معارض الكتب نفسها، هناك من ينادي بتعطيلها عدة سنوات، وذلك لتفعيل دور المكتبات، التي تبدو خاملة بسبب معارض الكتب في كل مكان.
وبالفعل ألاحظ في زياراتي للمكتبات أن هناك معاناة ما، خاصة في رفوف الكتب الإبداعية، ودائما هناك من البائعين أو الموظفين إن كانت مكتبة كبيرة مثل المتنبي وجرير، من أن العمل في المعارض أفضل، وأيضا في المتاجر الإليكترونية التي توفر الكتب بلا مخازن، وتنقلها للزبون في أي مكان. وطبعا هذه طفرة كبيرة، سنعود للحديث عنها.
المسألة تكمن أساسا في القاريء العربي حسب ظني فالعرب أمة أقرأ لا تقرأ وحسب تقرير لليونيسكو فإن العربي يقرأ نصف صفحة. سنويا في حين يقرأ الاسرائيلي اربعين كتابا.. ونسبة القراء هي سبعة بالألف. والبيست سيلر في العام العربي لا يتجاوز ثلاثة آلاف نسخة في حين أنه في دول أخرى ربما يتجاوز الملايين. وأرجو أن تمعن النظر في وسائل التواصل الاجتماعي اليوم التي جعلت قسما كبيرا من العرب يغرقون في متابعة التويتر والفيس بوك ويقضون اوقاتهم في مهازل وتفاهات وشتائم وعرض سخافات القول بدل قراءة كتاب مفيد وهذا سبب من أسباب تخلف الشعوب العربية التي لم تصل بعد الى النضج الفكري
وفي الغرب أيضا! من الممكن أن توافق دار نشر كبرى على نشر الرواية الأولى لكاتب معين-وهو أمر يكاد أن يكون معجزة- ولكن إذا تبين أنه غير قابل للتسويق والتوقيعات، كأن يكون كبيرا في السن مثلا، فإن مصلحة الماركوتينغ في الدار تعترض ويتم إلغاء الموافقة على النشر،كما فعلت دار نشر فايار مع أحد التعساء!