لندن – “القدس العربي”: كما تابعنا على مدار الأسبوع الماضي، أعطت وسائل الإعلام الرياضية في بلدان الدوريات الأوروبية الكبرى، مساحات مضاعفة، على غير العادة، للتغطية الخاصة بمواجهات الجولة السادسة والعشرين للبوندسليغا، بسيل من التقارير والمقالات التحليلية للمباريات التسع، احتفاء بعودة أول دوري من الخمسة الكبار إلى قيد الحياة، بعد فترة توقفت دامت شهرين، لاحتواء ومنع تفشي جائحة كوفيد-19 في ألمانيا وباقي الدول الأوروبية، كأفضل تجربة تبعث الأمل والتفاؤل لكل الدول، التي تنوي استكمال موسمها الكروي، ولو بالمصطلح الشائع “مباريات أشباح”، لمساعدة الأندية في التغلب على الأزمة الاقتصادية غير المسبوقة، بتقليل حجم الخسائر الفادحة التي تتكبدها يوميا منذ إعلان تجميد النشاط الكروي منتصف الشهر قبل الماضي.
دروس من كوكب الألمان
صحيح كوريا الجنوبية كان لها السبق، بفك الحظر عن النشاط الكروي، لكنها ليست من الدول التي تتنفس كرة القدم، أو بالأحرى اللعبة ليست مؤثرة في اقتصاد الدولة، كما يمثل البوندسليغا بالنسبة لحكومة أنغيلا ميركل، أو البريميرليغ لرئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، ونفس الأمر في إيطاليا وإسبانيا وبدرجة أقل فرنسا، التي استسلمت سريعا للجائحة، بإلغاء الموسم الكروي والرياضي بُرمته، وإعلان باريس سان جيرمان بطلا، بنفس الطريقة التي رفعت بها كل من هولندا وبلجيكا الراية البيضاء في معركتهما مع الوباء التاجي، لذا، ما فعله الألمان في عطلة نهاية الأسبوع الماضي، بعيدا أنه يستحق الضجة الإعلامية غير المسبوقة، فهو أيضا يستحق الدراسة والتأمل والتعلم من تجربتهم، التي باتت محط أنظار المسؤولين والحكومات في مختلف أنحاء العالم قبل المتشوقين للاستمتاع بعودة الحياة إلى المستطيل الأخضر، انتظارا لنتائج هذا النموذج المبهر، قبل تطبيقه بشكل عملي الشهر المقبل أو في أي وقت آخر إلى أن تنتهي غمة الوباء وتعود الحياة إلى ما كانت عليه قبل مارس/ آذار الماضي، والسؤال الذي يفرض نفسه: كيف استطاع الألمان الخروج من المحنة بهذه السرعة القياسية؟ وسؤال آخر: هل من الممكن تعميم هذا النموذج في دول أخرى؟ قبل الرد على هذا الطرح. دعنا نتفق عزيزي القارئ أننا نتحدث عن “كوكب ألمانيا”. هؤلاء الناس الذين قال عنهم أسطورة الأرجنتين دييغو أرماندو مارادونا عبارته الخالدة “المستحيل ليس ألمانيا”، بعد الانحناء أمامهم في نهائي مونديال 1990، وهم أيضا أصحاب معجزة القرن الماضي في “بيرن” 1954، حين قهروا هنغاريا في نهائي كأس العالم، وفي أول مشاركة مونديالية بعد الحرب العالمية الثانية، حتى أن أغلبنا كمتابعين لكرة القدم العالمية، كنا على ثقة تقترب من درجة اليقين، أن البوندسليغا سيكون في طليعة الدوريات الأوروبية الكبرى العائدة إلى الحياة في زمن كورونا، لما يعرف عنهم من انضباط والتزام وصرامة في العمل، قلما تجدها في شعوب أخرى، وإلا ما وصل اقتصاد بلادهم إلى ما هو عليه الآن، كقوة اقتصادية تملك على الهامش شركات دخلها السنوي يفوق ميزانية دول في الشرق الأوسط وشرق أوروبا، وهذا في حد ذاته، واحد من أهم العوامل التي ساعدتهم لإعادة عجلة الحياة إلى الملاعب.
تكاليف باهظة
لا يخفى على أحد، أن المسؤولين في رابطة البريميرليغ والحكومة البريطانية، شأنهم شأن أصحاب قرار عودة كرة القدم سواء في أوروبا أو في كل بقاع الأرض، جميعهم يراقبون ويحبسون الأنفاس في انتظار نتيجة التجربة الألمانية، كيف لا والأمر لا يتعلق فقط بإجراءات الصحة والسلامة، بل أيضا يحتاج تكاليف أقل ما يمكن وصفها بالباهظة، ليبدو المشهد بالصورة اللطيفة التي تبدو عليها الملاعب الألمانية للأسبوع الثاني على التوالي، منها على سبيل المثال، فرض كمامات الوجه على كل العاملين في اللعبة، وفي مقدمتهم اللاعبين، بتعليمات مشددة، بعدم خلعها في أي مكان أثناء التنقل من الفندق إلى ملعب التدريب أو خوض مباراة رسمية، فقط يُسمح لهم بخلع هذه الكمامات مع اقترابهم من دخول أرضية الملعب، ونفس التعليمات تنطبق على المدرجات، بإقامة المباريات خلف أبواب موصدة في وجه الجماهير إلى أن تنتهي الجائحة بسلام. وبين هذا وذاك، يتم تعقيم المنشآت وغرف خلع ملابس اللاعبين قبل وبعد التدريبات، تنفيذا لتعليمات ميركل خلال اجتماعها مع رؤساء المقاطعات الـ16، للاتفاق على خطة عودة كرة القدم في أسرع وقت، وشملت أيضا ضرورة اصطحاب اللاعبين إلى الملاعب في حوالي 4 أو 5 حافلات، ليكون كل واحد مخصص لستة أفراد على أقصى تقدير، ويُفضل أن تأتي بحافلات أخرى جديدة في رحلة العودة بعد المباريات، لضمان أعلى معايير السلامة حفاظا على صحة اللاعبين وكل العاملين في المجال، ولنفس السبب، تم إلغاء روتين المؤتمرات الصحافية مع المدربين والقادة قبل وبعد كل مباراة. هذا الأمر أصبح من الماضي الجميل بالنسبة للألمان في عصر كورونا، ولعلنا لاحظنا عدم ظهور أي مدرب أو لاعب بالطريقة المتعارف عليها سواء في الطريق المؤدي لغرفة خلع الملابس ولا جلوس الصحافيين في القاعات المخصصة للمؤتمرات، ناهيك عن تعقيم كل الكرات المستخدمة في المباريات، والحفاظ على قواعد التباعد الاجتماعي كما ينبغي، بجلوس اللاعبين على المقاعد بمسافة آمنة مع تفادي الاحتفال الجماعي بعد إحراز الأهداف، بالطريقة المبتكرة التي احتفل بها لاعبو بوروسيا دورتموند مع جلاد الحراس إيرلينغ براوت هالاند بهدفه في شالكه، والأهم، اختفاء ظاهرة البصق على أرضية الملعب، باعتبارها سلوكا مُشينا يُعاقب عليه بالبطاقة الصفراء بموجب القانون. أضف إلى كل ما سبق، التطبيق الصارم للوائح والعريضة المكونة من 50 ورقة، الموقع عليها من قبل رئيسة الحكومة ورؤساء المقاطعات، كما حدث مع مدرب أوغسبورغ، بمعاقبته بالحرمان من قيادة فريقه أمام فولفسبورغ ولا حتى تدريبه، فقط لأنه ترك المعسكر لشراء معجنون أسنان. حتى عندما ظهرت حالات في دوري القسم الأول، تم التعامل معها وفقا للبروتوكول، ليعود الدوري في الموعد المتفق عليه، وبصورة حضارية بالمعنى الحرفي، كما وثقت العدسات لحظات الدخول الفردي المنظم للاعبين والمدربين وكذلك المعنيين بالتصوير والمصرح لهم بالدخول، فمن يا ترى سيسير على نهج الألمان، ويتبع قواعدهم ليرسم ولو بصيصا من الأمل والتفاؤل بعودة الحياة إلى طبيعتها، حتى لو بطريقة مختلفة عما كانت قبل تفشي الوباء، للتعايش معه بدون أضرار إلى أن يتم الإعلان الرسمي عن انتهاء الجائحة.
مكاسب البوندسليغا
قبل توقف النشاط، كان الدوري الألماني يستحوذ على شريحة جماهيرية أقل من نظيريه في إنكلترا وإسبانيا، لكن عودته بعد 60 يوما من غلق الحياة وجلوس الناس في منازلهم، وعدم إيجاد أشياء جديدة حتى في عالم مواقع التواصل الاجتماعي ومواقع المشاهدة الترفيهية، ساعدته في الحصول على مشاهدة قياسية، وصلت الى حد ضعفي مشاهدته في أفضل الأحوال، بتسجيل 3.6 مليون متابعة عبر الشاشات وقرابة الـ3 ملايين من خلال البث المتعدد المعروف باسم “مالتيبليكس” عبر القناة المفتوحة لسكاي، كأفضل متنفس لعشاق اللعبة بعد فترة التوقف الطويلة، وبالتبعية ضمان الحصول على أرباح بدلا من البكاء على اللبن المسكوب وخسارة عشرات الملايين يوميا. ولا ننسى أن عودة الدوري الألماني، ستثير غيرة البلدان الأخرى، وستعطي الأندية فرصة عظيمة للضغط على المسؤولين الحكوميين، من أجل مساعدتهم في الخروج من المحنة، أو على أقل تقدير إيقاف الخسائر كما فعل الألمان، أو أنهم مخلوقات فضائية هبطت علينا فجأة، لهذا، بدأنا نلاحظ التغير الجذري في موقف بريطانيا وإيطاليا وإسبانيا لاستكمال الموسم، عكس الوضع على الأقل في مثل هذه الأيام من الشهر الماضي، كانت النظرة تشاؤمية في إنكلترا، وما زاد الطين بلة بعدها، تجاهل رئيس الوزراء الحديث عن عودة الكرة والنشاط الرياضي عموما، بينما الآن، الأمور تتجه نحو استنساخ النموذج الألماني منتصف الشهر المقبل، ونفس الأمر بالنسبة للكالتشيو والليغا، على أن يلحق بهم دوري أبطال أوروبا، ولو باقتراح تقليصه إلى مباراة واحدة في الأدوار الإقصائية القادمة، وإلى أن يبقى البوندسليغا الحدث الوحيد المسيطر على الساحة في الأسابيع القليلة القادمة، ستتزايد فرصة المواهب الشابة في تحقيق أحلامها في الانتقال خطوة إلى الأمام إلى أحد كبار البريميرليغ أو الليغا، كأفضل تسويق إعلامي للبطولة وفي الوقت المثالي، حيث ما زالت الدول الأخرى تعقد الاجتماعات، لإيجاد آلية العودة، بينما في نفس الوقت يتحدثون عن موعد انتهاء الموسم في ألمانيا وبداية الموسم الجديد، وقد ظهرت مؤشرات ارتفاع نسبة مشاهدة الدوري الألماني في بريطانيا والمنطقة العربية على وجه الخصوص، بالتعليقات و”الكوميكس” الساخرة من أسماء الفرق الألمانية المعقدة في نطقها، وهذا أمر، ما كان يحدث في الماضي، عندما كانت تلعب أندية البريميرليغ والليغا والكالتشيو في نفس التوقيت، دليلا على نجاح الهدف المنشود من عود الدوري الألماني في هذا التوقيت بالذات.
ضريبة وحسد
أظهرت البيانات التي جمعها معهد تحليل المباريات في بوتسدام من استئناف مسابقة الدوري الألماني السبت الماضي، أن اللاعبين قاموا بتغطية مساحات أكبر وكانت هناك قوة أكبر، ووقت أطول صاف للاستمتاع بلعب الكرة والقليل من التمريرات الخاطئة، حيث قطعت الفرق 116 كيلومترا في المتوسط، وهو يعادل ما كان يتم قطعه في المباريات السابقة، والسبب وراء ذلك، يرجع إلى السماح للمدربين بإجراء 5 تغييرات بدلا من 3، باستخدام القاعدة المؤقتة بإجراء 79 تبديلا في الجولة الماضية من أصل 90 تبديلا متاحا. بجانب ذلك، كانت هناك توقفات قليلة ووقتها قصير، ما أدى إلى ارتفاع الصافي لأكثر من دقيقتين من 55.6 إلى 57.7 دقيقة في المباراة. ويرى البعض أن السبب، لقلة الشكوى من القرارات التحكيمية بعيدا عن ضغط الجماهير، والدليل على ذلك، أن بوروسيا دورتموند، هو الفريق الوحيد الذي تمكن من تحقيق الفوز على أرضه، باكتساح شالكه برباعية لا هوادة في دربي نهر “الرور”، ما يعكس أهمية الحضور الجماهيري، وتأثيره في دعمه اللاعبين، بينما بدونهم، لُعبت المباريات وكأنها في ملاعب محايدة، وهذا المجهود البدني الكبير، كبد اللاعبين ضريبة كانت متوقعة، بتعرض أكثر من 10 لاعبين لإصابات عضلية، نتيجة الأحمال البدنية الزائدة والرغبة في الركض، بعد فترة الغياب الطويل، وهي مشكلة من السهل تجاوزها، مع تطبيق نظام “المداورة” في الجولات المتبقية على انتهاء الموسم، وستتجرع الأندية الإنكليزية وكذلك الإسبانية والإيطالية نفس الكأس، إذا سارت أمورهم على ما يرام، ولم تحدث عقبات تعرقل خطة العودة المتفق عليها منتصف يونيو/ حزيران، وإلا ستكون أندية هذه البلدان على موعد مع أسوأ أزمة اقتصادية في التاريخ، ناهيك عن المشاعر السلبية والصدمة التي ستنتظر البعض منهم، لعل أبرزهم ليفربول، الذي يحتاج ست نقاط فقط لحسم أول لقب دوري إنكليزي بمسماه الجديد منذ 30 عاما، وفرق أخرى كانت تعلق آمالها سواء على بطولات أو مراكز مؤهلة للأبطال أو حتى ما تبقى من أرباح الموسم، لعدم الإخلال بميزانية العام الجديد بعد الخسائر الفادحة الأخيرة. هؤلاء كما أشرنا، إن لم يصيبهم الحسد من الألمان، فعلى الأقل تضاعفت مطالبهم أمام المسؤولين لاستكمال ما تبقى من الموسم، أسوة بتجربة وطن الماكينات، ووضح ذلك من خلال تصريحات مدرب ليفربول يورغن كلوب الأخيرة مع موقع “الاتحاد الألماني”، باعتراضه على فكرة إلغاء الموسم، حتى في خضم دعوات المطالبة بإلغاء الدوري الإنكليزي، كذلك وزير الرياضة المصري أشرف صبحي، قال في مداخلة تلفزيونية، إنه كباقي المسؤولين في دول العالم، يراقب ويدرس ما فعلته ألمانيا، لتكون مصدر إلهام لعودة الكرة إلى ملاعب الفراعنة. الشاهد أن الألمان قدموا للعالم، أو بمعنى أدق، لكوكب كرة القدم، الوصفة السحرية لممارسة كرة القدم في زمن كورونا. والآن أصبح الأمر متروكا لأصحاب القرار، إما بإتباع خارطة الطريق وإنقاذ موسم كرة القدم، أو مواصلة القلق والانتظار حتى إشعار آخر.