ما يجري حالياً في جامعات العالم من احتجاجات ووقفات تضامنية مع أهالي غزة أمر يبدو جديدا في الظاهر، لكنه ينتمي في الواقع إلى مرجعية عابرة للأحداث، متجذرة في سلسلة طويلة من التزامات المفكرين بما يسمونه «قضية».
ليست القضية الفلسطينية وحدها هي التي نالت قسطا وفيرا مما يمكن تسميته بمنظومة احتجاجية متكاملة، جسّدها تاريخ طويل من المجهود الفكري الموجه لـ»كتابة الغضب».
ولعل أبرز مثال في تاريخ ارتباط النضال الفكري بالقضايا المشروعة مثال حرب فيتنام، التي نزلت تغطيتها الإعلامية والفكرية في سياق الاحتجاجات والوقفات التضامنية التي أقيمت للمطالبة بإنهاء الصراع.
هنا، يختلف السياق في تجلياته، لكن لا يختلف في شكله. فالسياق، إطارا وهيكلا وأهدافا، يبقى هو هو. في حالة فيتنام أمس، في حالة فلسطين أمس واليوم، كما في كل الحالات التي تكرس الوقوف إلى جانب المستضعفين في العالم. هنا، استعمل عمدا كلمة لم تعد موجودة في الخطاب العام، كما لم تعد تجدها غالبة على الكتابات الملتزمة اليوم – إلا نادرا – كلمات مثل «نضال».. ولا كلمة «كفاح».. غابت «كفاح» بالمعنى النضالي لرفاق الدرب، فاستحالت إلى صيغة مخففة في صورة التعبير المبتذل والمعروف، الذي تستعمله مثلا عندما تتحدث عن «مكافحة الإرهاب»، لكن كل مكافحة، مكافحة الإرهاب، مكافحة الاحتلال، مكافحة التمييز العنصري، مكافحة الهجرة غير القانونية، لا يمكن أن تفضي إلى نتيجة ما لم يؤطرها كفاح، أي مشروع التزام طويل النفس ومتعدد الوجوه متجذر في تاريخ طويل من الإنجازات اللافتة. ما نشهده حاليا من انخراطات في الوسط الجامعي، وريث ممارسات، يتناسى من يكتفي بإرجاعها إلى عمل «أقليات فاعلة»، طابعها الهيكلي- الجوهري وليس السطحي- العرضي. أن تجد جان بول سارتر في زمنه وهو يقف إلى جانب عمال مصانع السيارات في مدينة بولوني – بيانكور مشهد يشبه في الصميم وقفات الطلاب المطالبين بـ»تحرير فلسطين» من زاوية الالتزام إلى جانب المضطهد – المظلوم. هنا، خلافا لما يعتقد البعض، لسنا في المجال السياسي، أو بالأحرى لم نعد فيه، لقد تجاوزناه.. لقد أعاد النضاليون منذ زمان السياسة لأهلها: قياديون، وسطاء طاولة مفاوضات، متحدثون بلسان حركات…
النضال أساسي وهو من الآليات القليلة القادرة على إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، لأنه يمنح لنا فرصة دائمة جديدة لتدارك الفشل
أجل، عندما تعود الواجهة النضالية إلى منصاتها – أكانت جامعية أو رقمية – يعني هذا أن الزمن الطويل، زمن غضب الشعوب، عاد ليعلن عن فشل الزمن القصير، زمن الحسابات والضغوطات والمصالح. عاد هذا المشروع الضارب الجذور في تربة التاريخ إلى البروز، وإذا كان الحرم الجامعي يتقمصه ليعود إلى الواجهة الآن، فقد اتخذ صورة مختلفة عن سوابقها التي نحتتها، كالتجمعات الطلابية مثلا. هذه المرة، خرجت هيئة التدريس أيضا. هذه المرة، سمعنا أصوات جامعيين مرموقين ومعروفين باعتدالهم يعربون عن تفهمهم التام للدعوات إلى قطع التعاون العلمي مع الجامعات الإسرائيلية. هكذا تحدث الفرنسي برتراند بادي، أحد أشهر أساتذة مدرسة العلوم السياسية في باريس. أما أدموند غريب في واشنطن، فقد لفت الانتباه إلى التأثير الذي يمكن أن يخلفه هذا الحراك على الانتخابات الأمريكية المقبلة، أكثر من إي تأثير آخر. فأمام استياء شريحة واسعة من ناخبي بايدن لتلكؤه في الضغط الفعلي على نتنياهو (بالتوقف عن مدّ إسرائيل بالسلاح أولا) لا نستبعد تحولا مفاجئا لأصوات القاعدة الديمقراطية التقليدية إلى تصويت غير التصويت لبايدن. أما الواقع السياسي الفرنسي، فمطبوع بتاريخه أيضا: تاريخ تقليدي من الوقوف إلى جانب حق الشعوب في السيادة على نفسها، وبالتالي على أراضيها. من هنا شغلت كلمة «فلسطين» حيزا مهما من مفردات الكتاب الفرنسيين الملتزمين، ومن حقليهم الدلالي والمعنوي عندما يتناولون مسألة الظلم وسلب الحقوق.
النضال أساسي وهو من الآليات القليلة القادرة على إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، لأنه يمنح لنا فرصة دائمة جديدة لتدارك الفشل.. ليس حنينا إلى زمن مضى ولا هروبا من زمن حاضر، بل تجسيدا لقصور يستمر في اعتباره مرحليا إلى حد الانتصار، وهذا ما يعرف بالـ»قضية».
باحث أكاديمي وإعلامي فرنسي