قضي الأمر. لم يكن على أمريكا الانتظار طويلًا لتعرف أن الرئيس السابق دونالد ترامب سيعود إلى البيت الأبيض منتصرًا بعدما حقق فوزًا واضحًا على منافسته نائبة الرئيس كامالا هاريس، في انتخابات صاخبة أثبتت مرة جديدة أن المزاج الشعبي في الولايات المتحدة، شأنه شأن الرأي العام في العالم الغربي المسيحي الأبيض، مهجوس بمخاوف إثنية وضغوط معيشية تجعله عرضة لمؤثرات الحملات الشعبوية وقابلًا للميول الاستبدادية والعنصرية، وتواقًا إلى قادة من طراز «الرجل القوي» الذين يمكن أن يمنحوه الشعور بالأمان والاطمئنان، بصرف النظر عن مدى زيف هذا الشعور، أو مدى صدقية المخاوف التي ضاعف التواصل الاجتماعي من انتشارها السهل، واستغلها السياسيون ببراعة، ودخلت على خطها دول ومصالح، لتفرض نفسها بقوة على الحياة العامة وتدفع المسارات السياسية نحو أقصى اليمين في دول ذات أنظمة ديمقراطية راسخة. لم يتأخر الإعلان عن فوز ترامب سوى بضع ساعات، وأفاقت أمريكا في اليوم التالي للانتخابات، وحتى قبل حسم نتائج الانتخابات التشريعية، التي لا يزال بعضها عالقًا حتى كتابة هذا التقرير، على حقيقة أن الرجل الأكثر إثارة للجدل والذي تغلف شخصيته عيوب أخلاقية ومسلكية، والملاحق في قضايا قانونية وجرمية ومالية، سيكون الرئيس السابع والأربعين، بعد غياب أربع سنوات عن البيت الأبيض، وأنه قاد المحافظين إلى نصر انتخابي باهر سيجعل جميع السلطات في يدهم بعدما فشل الديمقراطيون بطريقة لم تكن قريبة إلى الحد الذي توقعته استطلاعات الرأي، التي أثبتت مرة جديدة عدم جدواها وعدم دقتها، واخفاقها الكبير في عصر الإنترنت والفضاء الإلكتروني الهائل.
حقق ترامب بفوزه سوابق وأرقام قياسية جديدة، فهو أكبر رئيس منتخب سنًا (78 سنة) يليه الرئيس الحالي جوزيف بايدن الذي كان في السابعة والسبعين حين انتخابه عام 2020. وهو ثاني رئيس يعود إلى البيت الأبيض بعد فشله في انتخابات تمديد ولايته، أول رئيس فعل ذلك هو غروفر كليفلاند الذي انتخب عام 1880 وخسر عام 1884 وعاد عام 1888 (الفارق بينهما أن كليفلاند كان ديمقراطيًا، وأول رئيس من الحزب بعد الحرب الأهلية، وحاز على غالبية الأصوات في انتخابات 1884 لكن منافسه الجمهوري بنجامين هاريس حصل على أغلبية أصوات المجمع الانتخابي) وهو أول رئيس ينتخب بأصوات أقل مما حصل عليه في الانتخابات التي خسرها في الدورة السابقة، (صوّت له 74224 مليونًا عام 2020 مقابل حوالي 73.236 مليون في هذه الانتخابات) وهو أول أمريكي مدان قضائيًا ينتخب رئيسًا، (ادين ترامب في محكمة في نيويورك بـ 34 تهمة تتعلق بقضية الاحتيال والتهرب الضريبي في قضية دفعه مبلغ مالي كبير لنجمة الأفلام الإباحية ستورمي دانيالز للتستر على علاقتها الجنسية معه) وهو كذلك أول رئيس يتم انتخابه بعد محاولته الانقلاب على نتائج انتخابات رئاسية ومنع التداول السلمي للسلطة).
أطلق فوز ترامب سيلًا عارمًا من التساؤلات والقلق في أوساط أمريكية كثيرة، خصوصًا وأن حملته كانت مفعمة بالتهديدات المباشرة لخصومه والمواقف غير المألوفة إزاء الحياة السياسية والأفكار ذات المضمون الاستبدادي، فقد تعمد خلال جولاته الانتخابية الإعلان عن خطوات «نافرة» لتحفيز مؤيديه، ومنها، ضمن أشياء كثيرة، قوله أنه يريد أن يكون ديكتاتورًا في اليوم الأول لعودته إلى منصبه، وأنه سيقفل الحدود مع المكسيك ويفرض على صادراتها إلى أمريكا، رسومًا جمركية بنسبة 100 في المئة، وأنه سيقوم بترحيل ملايين المهاجرين غير النظاميين، وسيرفع الحظر عن استخراج النفط، وسيحد من أنظمة حماية البيئة، ولم يتأخر ترامب في تعزيز المخاوف فور انتخابه فأعلن في خطاب الفوز أن أمريكا «منحته تفويضًا قويًا وغير مسبوق لإصلاح الأمة التي تحتاج إلى إصلاح عميق».
قبل محاولة التطرق إلى الاحتمالات التي ستواجه أمريكا والعالم في الولاية الثانية لترامب، لا بد من نظرة سريعة على الانتخابات بالأرقام التي ترجمت توجهات الناخبين التي لم يتنبأ بها أحد. حتى يوم الجمعة، الثامن من تشرين الثاني/نوفمبر، شارك في الاقتراع المباشر والمبكر وعبر البريد ما يزيد على 142 مليون ناخب، وهو رقم أقل بما يزيد على 13 مليون ناخب عن انتخابات 2020 وحصل ترامب على 295 صوتًا من مجموع أصوات المجمع الانتخابي البالغ 538 صوتًا، وهو في طريقه ليرفع هذا العدد إلى 312 بعد الإعلان الرسمي عن نتائج ولايتي اريزونا ونيفادا، مقابل 226 صوتًا لهاريس التي خسرت الولايات المتأرجحة السبع جميعًا، وقاد ترامب حزبه للفوز بالغالبية في مجلس الشيوخ بفارق ثلاثة مقاعد، 53 من أصل 100. وتشير الأرقام الأولية إلى أن الجمهوريين سيعززون غالبيتهم في مجلس النواب ببضعة مقاعد إضافية بعد نجاحهم غير المتوقع في ولايات تصوت للديمقراطيين بشكل أكبر مثل بنسلفانيا ونيويورك وكاليفورنيا، وقد يستقر الرقم على 221 مقابل 214 للديمقراطيين، فيما فاز ثمانية جمهوريين من أصل 11 مرشحًا لحاكمية الولايات في هذه الدورة الانتخابية، ليصبح عدد الحكام الجمهوريين 27 مقابل 23 ديمقراطيًا.
غزة هزمت هاريس
ولأن الأرقام حتى الآن غير قابلة للتحوير على الرغم من كل ادعاءات ترامب التي أثبتت زيفها مجددًا، لأنه فاز مجددًا في انتخابات قال منذ شهور أنها مزيفة، من المهم وضع الأمور في نصابها. لم تتورع بعض الأصوات والمقالات والمواقع العربية عن التبكير بتحميل العرب الأمريكيين مسؤولية عودة ترامب بسبب موقفهم من إدارة بايدن من حرب الإبادة على غزة ولبنان، وعلى الرغم من الكيدية في تلك المواقف، تنبغي الإشارة إلى الحقائق الواضحة، وأولها أن هاريس ومن خلفها بايدن خسرا، وجرا معهما الحزب الديمقراطي إلى خسارة مذلة، بسبب سياستهما الحمقاء. سياسة استرضاء الصهاينة والعنصريين والمتزمتين بناء على استطلاعات رأي لا تساوي قيمة الحبر المستخدم في طباعتها. استطلاعات ترتكز إلى المؤثرات الصهيونية على السياسة الأمريكية، وهي استبيانات عفا عليها الزمن، ولم تعد مجدية إلا في أروقة الحزب الديمقراطي المبتلي، لأسباب كثيرة، بالعشق الصهيوني الذي يمثل كل ما يناقض فكرة الديمقراطية، لا سيما وأن كبار قياداته من بايدن الذي يجاهر بلا داعٍ بأنه صهيوني ولم يكن يهوديا، إلى آلاف الحزبيين الكبار ومئات الأعضاء المنتخبين إلى حاكمية الولايات ومجالس النواب والشيوخ المحلية والفدرالية.
كان على هاريس بعد عزوف بايدن أن تختار، وكان اختيارها سيئًا. قرر بايدن في تموز/يوليو الماضي عدم المضي في سباق الرئاسة لأن كل استطلاعات الرأي وكل التوقعات كانت تشير إلى أن موقفه التافه والصلف في دعم إسرائيل المطلق وغير المحدود بينما تتعرض غزة لإبادة لا مبرر لها ولا مسوغ، لكن هاريس المقترنة بزوج يهودي صهيوني لم تفهم، أو أنها اعتقدت أن بإمكانها، بحذاقة أو فهلوة، أن تتجاهل معنى انسحاب رئيسها من المعركة وهو في الموقع الرسمي الأول في الدولة الأعظم في الكون، فقررت عن سابق تصور وتصميم أن تتبع خطى سلفتها هيلاري كلنتون التي خسرت انتخابات 2016 بجدارة لأنها راهنت على الصوت الأمريكي البروتستانتي العنصري الأبيض، كتكفير عن انتخاب أول رئيس أسود في أمريكا، باراك حسين أوباما.
لم يقتصر أثر خيار هاريس على العرب الأمريكيين، أو ما يسمى مجازًا بالمسلمين الأمريكيين (حيث لا دلائل ولا مؤشرات ولا مسوغات لتسمية مثل هذه، وهذا موضع بحث آخر) وإنما أصاب في الصميم التيار الأهم والأكثر دينامية في الحزب الديمقراطي؛ التيار الشبابي الليبرالي الذي تجلى بصراحة وقوة في الانتخابات الأولية عام 2016 وكاد لولا الألاعيب الصهيونية المهيمنة على الحزب الديمقراطي في حينه، تحت رعاية عضوة الكونغرس عن فلوريدا الصهيونية دبي وايتزرمن شولتز، أن يوصل السناتور اليهودي الأمريكي بيرني ساندرز إلى التزكية الليبرالية التي أهدرتها كلينتون بالمراهنة على الصهاينة، لذلك خذل الناخبون الديمقراطيون هاريس التي لم تقدر على تحفيزهم. حصل الرئيس بايدن على أكثر من 81 مليون صوت عام 2020 بينما لم تحصل هاريس على سبعين مليون صوت الآن. الأمر ليس صدفة ولا يمكن تحميله للعرب الأمريكيين، أو ما يسمى المسلمين الأمريكيين الذين لا تتجاوز نسبة أصواتهم عتبة الـ 2 في المئة. المعضلة تكمن في التيار الليبرالي الشبابي الذي فشلت هاريس في استقطابه ولذلك حصلت على أصوات أقل بـ 12 مليون ناخب من بايدن.
الإعصار ترامب
إثنان وسبعون يومًا تفصلنا عن يوم الإثنين في العشرين من كانون الثاني/يناير 2025 وهو يوم عودة ترامب إلى المكتب البيضاوي على رأس سلطة تنفيذية معززة بأغلبية جمهورية تشريعية في مجلسي النواب والشيوخ، ومستندة إلى محكمة دستورية عليا ثلثاها من المحافظين (6 من أصل 9) ثلاثة منهم اختارهم ترامب نفسه خلال ولايته الأولى، وهي عودة مختلفة تمامًا عن وصوله الأول عام 2017 حين كان يومها مأخوذًا بمفاجأة فوزه غير المتوقع، ويتلمس طريقه بعشوائية في أروقة السلطة بعدما حطم في طريقه إلى تزكية المحافظين الصورة التقليدية للحزب الجمهوري وأثار سخط رموزه الكبيرة وأهان الكثير منهم شخصيًا، ولم يكن في فريقه الانتقالي يومها سوى أسماء قليلة ممن لديهم الخبرة الحكومية والعلاقات الضرورية لتسيير الآلة الهائلة للبيروقراطية، وربما كان عجز إدارته في ملء الشواغر في المناصب الحيوية وخصوصًا في وزارات الخارجية والدفاع والأمن الوطني والمؤسسات الفدرالية أحد أبرز المؤشرات على عدم جاهزيته للعب دور لم يكن في الوارد، لكنه هذه المرة مستعد ولديه مشروع متكامل وضعته مجموعة من المفكرين والأكاديميين المحافظين في مؤسسة «هيريتيج» اليمينية النافذة بعنوان «مشروع 2025 لبناء انتصار محافظ من خلال السياسات والأفراد والتأهيل» ليكون «كاتالوغ» الولاية الثانية لترامب.
بديهي والحال كذلك أن يتوجس الأمريكيون، وخصوصًا الديمقراطيون والليبراليون، من عودة ترامب التي وصفها معلق سياسي بارز بـ«إعصار» سيقلب المشهد في واشنطن وتمتد آثاره إلى أمريكا كلها والعالم. كثيرة هي القضايا والمناطق التي سيكون لرئاسة ترامب الثانية أثر مباشر فيها، ولا شك أن الشأن الداخلي بجميع مندرجاته في طليعتها، ولعل أسرعها حصولًا وأكثرها قابلية للتنفيذ هو الملف القضائي. فور الإعلان عن فوز ترامب تناولت تقارير صحافية مآلات القضايا التي يواجهها هو شخصيًا، ففي نيويورك تتجه المحكمة التي دانت ترامب بـ 34 تهمة مدنية في ايار/مايو الماضي إلى إلغاء جلسة النطق بالحكم عليه التي كانت مقررة في السادس والعشرين من الشهر الحالي، كذلك باشر المحقق العدلي الفدرالي الموكل بالقضايا الجنائية ضد ترامب في مسألتي محاولة الانقلاب والهجوم على مبنى الكونغرس، والاحتفاظ غير القانوني بوثائق حكومية سرية، جاك سميث التشاور مع وزارة العدل لصياغة مخرج لائق لوقف التحقيق والإدعاء واعفاء سميث من مهامه قبل عودة ترامب الذي هدد أكثر من مرة بطرده في اليوم الأول من ولايته الثانية، ومن المتوقع أيضًا أن يصدر ترامب عفوًا عامًا عن أنصاره الذين شاركوا في الهجوم الكابيتول والذين يبلغ عدد المدانين منهم حوالي 1500 من عناصر الميليشيات والحركات الفاشية والنازية الجديدة، ما يعني عودة الروح بقوة إلى أكثر الشرائح العنصرية تطرفًا في أمريكا، مع ما يعني ذلك من تهديد فعلي للملونين وللأقليات والمهاجرين والمثليين.
الإدارة
لا يخفي مشرع 2025 واحدًا من أهم الأساليب الاستبدادية للتحكم الاجتماعي وتطويع إرادات الناس، وهو تسييس الإدارات العامة التي يفترض أن تكون في الدول الديمقراطية مؤسسات وطنية تخدم المواطنين على أساس الحاجة والأهلية، لكن لمؤسسة «هيريتيج» رأي آخر، فمشروعها يدعو صراحة إلى استبدال كبار الموظفين العموميين غير الحزبيين، أي المدراء ورؤساء المصالح والمؤسسات المختلطة والوكالات الفدرالية المحترفين الذين وصلوا إلى مناصبهم بناء على إنتاجيتهم وكفاءتهم، بصرف النظر عن ميولهم السياسية، بآخرين من الموالين للإدارة الجمهورية والقابلين لتنفيذ أوامرها بلا تردد، كما أراد ترامب في سياق محاولته الانقلابية عام 2020 والتي رفضها المحامي الفدرالي العام (وزير العدل) في حينه ويليام بار، الذي وصف ترامب لاحقًا بأنه منافق، وتحول إلى شاهد إدعاء ضده في قضية محاولة الانقلاب.
لا تتوقف مسألة تسييس الإدارة عند القضاء، فهناك المؤسسات الأمنية التي لا يكن لها ترامب أي ود، وهو من حرص في ولايته الأولى على إهانتها والنيل من هيبتها وتحقيرها، لأنها كشفت المستور عن علاقته الملتبسة مع الكرملين والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، على الرغم من أن مدير مكتب التحقيق الفدرالي جايمس كومي أهدى ترامب أثمن جوائزه الانتخابية عندما أذاع قبل أيام قليلة من الاقتراع مضمون تحقيقات رسمية تتعلق بالرسائل الإلكترونية للمرشحة الديمقراطية هيلاري كلنتون، والتي كانت نقطة التجييش الأهم ضدها من قبل الجمهوريين، وكان كومي على يقين أن ذلك سيؤذي أول امرأة تخوض الانتخابات الرئاسية، لكن ذلك لم يشفع له عند ترامب الذي أراد تطويع أهم جهاز أمني مرهوب في أمريكا، ما أدى في النهاية إلى عزله من قبل ترامب الذي عيّن بديلا له، لكنه لم يتمكن من عزله قبل خسارته انتخابات 2020.
الاقتصاد
من الثوابت أن الاقتصاد هو أهم المعطيات في الانتخابات الأمريكية. منذ الحرب العالمية الأولى وحتى ترامب الأول، كانت الأقانيم الثلاثة للانتخابات الأمريكية تقوم على المعيشة (Bread and butter) والأمن (War and peace) والعنصرية (Black and White). لم يتغير في تلك الثلاثية سوى البند الأخير، فبعد إقرار الحقوق الدستورية والمدنية في ستينيات القرن الماضي صارت ما تسمى المواجهة الثقافية- الأخلاقية هي الأهم، وهي مجموع المسائل المتعلقة بالإجهاض والمثلية الجنسية والتحول الجندري. لكن الاقتصاد كونه المصدر الأساس للمال يبقى الأكثر أهمية، ولذلك تثير عودة ترامب الكثير من الاحتمالات المرعبة. يهدد ترامب بتعرفة جمركية تبلغ الـ 100 في المئة ضد المكسيك وهي الدولة الأولى في التبادل الاقتصادي مع أمريكا.
وينذر بتعرفة جمركية تصل إلى حدود الستين في المئة مع الصين التي تمد الولايات المتحدة بأكثر من ستين في المئة من وارداتها الاستهلاكية، بإفلات عقال التضخم الذي قاده التخويف منه إلى البيت الأبيض مجددًا، بتضخم لا يمكنه مع كل هندساته المالية لجمه، بكارثة اقتصادية كبيرة لن يكون هو وعائلته ضحايا لها، لأنها ستطال محدودي الدخل والفقراء والمهمشين، بينما هو ومناصروه والمستفيدون من خيرات ولاته سيكونون في أمن وأمان.
لا شك في أن للمنطقة التي أتاحت لترامب الكثير من عوامل العودة إلى السلطة الكثير في الشرق الأوسط. راهن رئيس الوزراء الإسرائيلي الخبيث بنيامين نتنياهو، منذ مجازمة «طوفان الأقصى» التي قادتها «حماس» في السابع من أكتوبر 2023 واستثمر في حرب إبادة ساندها بايدن ببلاهة موصوفة وصادقت عليها هاريس بغباء لا يوصف، فيما كان الرئيس السابق الأحمق ترامب يوزع صكوك الغفران والسلام والتسامح التي لا يعي هو نفسه أي معنى لها، لكن رنة صوتها كانت ذات معنى للناخبين الذين ضاقوا ذرعًا بأكاذيب الديمقراطيين. أدار نتنياهو الحرب «المبررة» على غزة بلباقة تستأهل القبول الأمريكي من قبل الصهاينة الذين يثقون به، بناءً على تجربته الأولى، التي لا تزال تقديرات موازنيها في الميزان، ولن تحسم في سنوات قليلة.
إسرائيليَا سيحظى ترامب بترحيب يميني هائل، وسيستخدم نتنياهو كل التحفيزات الأمريكية التي تربى عليها في نيو جيرسي لتأليب ترامب ضد كل من هو غير أبيض، وغير مسيحي، وغير أوروبي الأصل، وسيتمكن من تجييشه ضد ما هو عربي ببساطة. وستكون لدى ترامب مروحة واسعة من الخيارات الانتقامية ضد كل من يمت إلى ذلك بصلة، لكن في المنقلب الآخر لا يمكن لترامب التنكر لعلاقاته العربية المجزية، خصوصًا مع الحكومات الصديقة في الرياض وأبو ظبي والقاهرة وعمّان والرباط وهي عواصم ذات حيثية، حتى ولو كان صهره جاريد كوشنير خارج فريقه هذه المرة.
أوروبيا
ليس هناك أي منطقة في العالم أكثر متابعة لما سيجري في واشنطن من دول أوروبا الغربية، سواء تلك التي انتصرت مع أمريكا في الحرب العالمية الثانية، مثل بريطانيا وفرنسا، أو تلك التي انتمت إلى دول التحالف بعد هزيمتها، وخصوصًا ألمانيا التي لا تأنس لغزل ترامب مع فلاديمير بوتبن المنهمك في حرب ضروس في أوكرانيا. لا تقتصر المخاوف الأوروبية على مصير كييف ورئيسها فلوديمير زيلنسكي، بل تتعداها إلى مصير العقيدة الدفاعية الأطلسية التي قامت بعد الحرب العالمية الثانية على أساس القيادة الأمريكية للغرب في مواجهة الخطر الشيوعي في حينه، وفي مواجهة الأخطار التالية حتى الآن. يتعامل ترامب مع الدول الحليفة وكأنها مدينة لأمريكا، فهو يريد «تقريش» الحماية الأمريكية لها، وهذا ما عبّر عنه تكرارًا في ولايته الأولى، وأصر عليه تكرارًا في حملته الانتخابية الأخيرة. معادلة بسيطة يمكن للأمريكي العادي أن يفهمها (ببدائية مفرطة) نحن نحميك…فعليك أن تسدد لنا أتعابنا، وكأن تلك الحماية المزعومة ليس لها أي مردود مالي لأمريكا!
سيكون الامتحان الأول لعقيدة ترامب الأوروبية في أوكرانيا التي لا يمكنها مقاومة الغزو الروسي بلا الدعم الأمريكي الكبير الذي لا يبدو أن ترامب مستعد له. هذا سيعني في أحسن الأحوال أن موسكو التي عملت بلا كلل ثلاث مرّات على إنجاخ ترامب، تستعد لجني ثمار استثمارها في الرئيس الأمريكي الذي شاركت في صناعته، وهذا يعني تلقائيًا صدمة جذرية في الدول الأوروبية الشرقية التي كانت ضمن حلف وارسو، والتي ستصبح موضوعًا قابلًا للنقاش من قبل موسكو ذات الشهية الدولية الواسعة والتي لن تجد من يصدها بجد في واشنطن.
آسيويا
تتمثل المعضلة الأكبر لأمريكا في المستقبل القريب في شرق آسيا حيث تسعى الصين إلى الهيمنة الإقليمية هناك كترجمة لنمّوها الاقتصادي الهائل. ففي حين سعت إدارة باراك أوباما ومن بعدها إدارة بايدن إلى نقل محور الصراع الدولي من أوروبا إلى شرق آسيا، يبدو أن المقاربة المالية لترامب ستؤثر بعمق على تحالفات أمريكا هناك على قدم المساواة مع مقاربته لحلف شمال الأطلسي. كرر ترامب في حملته الانتخابية الأخيرة أكثر من مرة أن على اليابان وكوريا الجنوبية أن يمولا الوجود العسكري الأمريكي فيهما، ومع أن الدولتين تتوليان مصاريف القواعد العسكرية الأمريكية على أراضيهما يطالبهما ترامب بأكثر من ذلك بكثير، فهو يريد منهما تسديد كل تكاليف الوجود الأمريكي هناك بما فيه رواتب الجنود الأمريكيين والتكاليف العسكرية واللوجستية المترتبة على ذلك، بالضبط كما يطالب دول الحلف الأطلسي، لكن دون ذلك محاذير ليس أقلها إعلان بعض الحكومات الآسيوية رغبتها في التعاون مع الصين القريبة منها.
تعني عودة ترامب إلى البيت الأبيض الكثير لأمريكا والعالم. الأمل ألا تكون تكرارا لوصول موسوليني في روما ولا هتلر في برلين، لكن رياح الإستبداد المهيمنة على الغرب لا تترك مساحة كبيرة للتفاؤل، فإذا كانت أمريكا تقود الاستبداد فمن يمكنه أن يصدّها؟