لا هي كانت عملا خارقا لنواميس العادة، ولا كانت محض عمل مسرحي تمثيلي، المقصود ـ طبعا ـ هو الضربة الإيرانية الأولى من نوعها ضد كيان الاحتلال الإسرائيلي، وقد تمت بعد نحو أسبوعين على شن ضربة إسرائيلية، دمرت مبنى القنصلية الإيرانية في دمشق، وقتلت عددا من كبار قادة الحرس الثوري الإيراني وأركان ما يسمى «فيلق القدس».
وقد لا يكون من معنى للمزايدات ولا للمناقصات في القصة كلها، فلا قيمة لرأي يبدي ولا لتحليل يساق، إلا أن يكون مبنيا على أساس من خبر صحيح، فالمزايدون يقولون إن الضربة الإيرانية تفتح عصرا جديدا، وكأنهم لم يسمعوا مثلا، أن عراق «صدام حسين» ضرب إسرائيل بصواريخه قبل 34 سنة، ويقول المزايدون أن الضربة المعنية أنهت زمن «الصبر الاستراتيجي» الإيراني، وأنها أكبر عمل عسكري مفرد في التاريخ الإنساني، فقد شاركت فيها مئات المسيرات وصواريخ «كروز» والصواريخ الباليستية، لكن النتائج الفعلية للضربة كانت للأسف شبه صفرية، رغم إفلات بضعة صواريخ باليستية من حوائط الصد الأمريكي والبريطاني والفرنسي، ومن قواعد أقيمت كلها على أراض عربية، وفي أقطار عربية أغلبها محطم، يتقاسم النفوذ عليها الإيرانيون مع الأمريكيين وأخواتهم الغربيين وغيرهم، ثم تكفلت حوائط الصد الإسرائيلية، المنشأة والمطورة أمريكيا بالباقي في غالبه، وحرمت الضربة الإيرانية من تحقيق هدفها في تدمير قواعد ومطارات «نافاتيم» و»رامون» والقاعدة الإسرائيلية الاستخباراتية في الجولان المحتل، اللهم إلا من أضرار طفيفة في قاعدة «نافاتيم» بالنقب المحتل، قد يكون بينها تدمير طائرة نقل «سي ـ 130» أمريكية.
بلغ صراع إيران مع الكيان الصهيوني إلى محطة حاسمة، قد تكون فيها «عواقب الجبن أفدح كثيرا من عواقب الشجاعة»
وكان الحصاد الضئيل للضربة فرصة سنحت للمناقصات وللمناقصين على الجانب الآخر، الذين عملوا بالمثل الشعبى السيار القائل «القرعة تتباهي بشعر رأس خالتها»، وأفرطوا في التغزل بكفاءة الدفاع الجوي الإسرائيلي والأمريكي، وكأن إسرائيل هي الخالة الحانية على العرب المجزوعين المفزوعين من تنامي قوة إيران، وكأن إسرائيل هي «الماشيح» المخلص، وهي الأخت تريزا الراعية للأعمال الخيرية في حواري البؤس، وأنه لا بأس من غض الطرف عن حروب الإبادة الجماعية للفلسطينيين، التي تشنها الخالة «إسرائيل» والعمة أمريكا، والتفرغ لمشاهدة ممتعة على أفلام إبادة «إيران»، وقد وقع بعض الأبرياء في ضلال المناقصين بالذات، فإيران هي الأخرى، ليست بريئة من دم مئات الآلاف ربما الملايين من العرب، ومن تأجيج المشاحنات والحروب الطائفية في أقطار المشرق والخليج، وقد فعلت ذلك لخدمة مشروعها الإيراني الفارسي المتلفع بالعباءة الشيعية، وكان للعرب بالمفارقة دورهم الظاهر في بناء المجد الإيراني، سواء بتكفير الشيعة العرب بالجملة، ورميهم كهدايا في جيب إيران، أو بإخلاء الطريق أمام التمدد الإيرانى بدعم مالى ولوجيستي مهول لغزو واشنطن للعراق وتدمير دولته، وقبلها بتخلي الدول العربية بالقطعة، ثم بالجملة عن القضية الفلسطينية والصراع مع إسرائيل، وتسليم مفاتيح القرار العربي للمتعهد الأمريكي، يفعل بها ما يشاء لخدمة ربيبته وقاعدته «إسرائيل»، وهو ما انتهى بنا إلى وضع بؤس وغياب شامل، تحول به المشرق العربى بالذات إلى ملاعب مفتوحة لصدام الأقوياء، وما من طرف عربي قوي ظل هناك، مع مضاعفات انسحاب مصر من دورها المشرقي، ثم عقد ما يسمى معاهدة السلام مع إسرائيل، اللهم إلا من مليارات وراء المليارات من الدولارات، دفعت بسخاء لتغذية وتضخيم أدوار جماعات إرهاب باسم الإسلام، سرعان ما جرى استيعابها وتوظيفها من قبل أجهزة مخابرات أمريكية وغربية وإسرائيلية، واستخدامها في تعميم خطط «فرق تسد»، التي أفادت إيران وإسرائيل معا، وكانت استفادة إيران مرئية، فقد سهلت أجواء الشحن والقتل الطائفي مساعيها، وجلبت أغلب الشيعة العرب أفواجا إلى التابعية الإيرانية، ومدت الحضور الإيراني الاستراتيجي من سواحل الخليج إلى سواحل البحر المتوسط وإلى العنق الجنوبي الحاكم للبحر الأحمر، ثم كان سهلا ميسرا بعد الفراغ والتفريغ العربي القومي، أن تتقدم طهران إلى دور الحامي الحصري لحقوق الشعب الفلسطيني، مع كسبها لأدوار الحامي الأفضل للشيعة والمتشيعين العرب، ووفق تفسير إيراني صفوي ـ لا علوي ـ لعقائد المذهب الشيعي، والتفاصيل يطول شرحها، لكنها صنعت بالتراكم ملامح القوة الإيرانية الصاعدة، إضافة للتطور الإيراني الذاتي في مجالات الصناعات العسكرية والصاروخية والنووية.
ومن هنا، بدت إيران كأنها الند الوحيد الأقوى لكيان الاحتلال المندمج استراتيجيا مع فروض الهيمنة الأمريكية، والمتطلع لتحالف وثيق مع القوى الزاحفة لمنافسة أمريكا على القمة الدولية كروسيا والصين بالذات، والمحصلة مع ذلك كله، أنه ليس صحيحا أن إيران مع إسرائيل تابعتان لأمريكا، فهذه رؤية فانتازية عبثية بعيدة عن الوقائع والحقائق الصلبة، وليس صحيحا بالقدر نفسه، أن مصالح إيران متطابقة بالضرورة مع المصالح العربية المفترضة، والحقيقة ببساطة، أن إيران تخدم إيران بالبداهة، وأن الدول العربية المعنية تخدم مصالح أمريكا وإسرائيل، ولأمريكا وأخواتها نحو ستين قاعدة وارتكاز عسكري في دول الخليج والمشرق العربيين، ولا مصلحة للأنظمة العربية المعنية إلا في أن تبقى حاكمة، وليس في وسعها أن تكون إلا في حماية الأمريكيين والإسرائيليين حتى إشعار آخر، وهو ما يفسر إعاقة وتعطيل الأنظمة المعنية، لمبادرة مصرية بتشكيل قوة دفاع عربي مشترك في قمة 2015، وتفضيلها البقاء تحت مظلة الحماية الأمريكية، بل السعي إلى حماية إسرائيلية لاحقة، قفزا فوق حقوق الشعب الفلسطيني، التي لم تعد تشغلها، اللهم إلا من باب طلب عطف وإحسان الراعي الأمريكي، الذي يعطي الأولوية المطلقة طبعا لضمان أمن وتوحش كيان الاحتلال، على نحو ما بدا فاقعا مجددا في تسخير قواعده العربية لصد الهجوم الإيراني على الكيان، وإفشال أهدافه المعروفة مسبقا لواشنطن، سواء بأعمال المخابرات، أو عبر الاتصالات غير المباشرة مع طهران نفسها، وهو ما أغرى الكثيرين بتصديق دعوى أن ما جرى مجرد فاصل تمثيلي متفق عليه، وقد بدا كذلك بالفعل في بعض مظاهره ومشاهده، فقد حرصت طهران على إبلاغ واشنطن مسبقا بحدود الرد، فوق أن حركة المسيرات الإيرانية البطيئة المستخدمة، سمحت بوقت طويل وأكثر من كاف لاستعدادات الإحباط، وكانت الصور علنية واصلة لعلم الكافة، والمحصلة إجمالا، أن الرد الإيراني جاء رمزيا في مغزاه، ومحدود الأثر جدا في نتائجه على الأرض، وبدا ذلك مقصودا ولغرض في نفوس صناع القرار في طهران، فهم كانوا يريدون إثبات مقدرتهم المبدئية على الرد، رغم تنائي المسافات الجغرافية، وكانوا يريدون طيا سريعا لصفحة المواجهة العسكرية المباشرة، وكانوا يريدون توقيا لرد إسرائيلي وهجوم مرتد باتجاه الأراضي الإيرانية، ثم ثبت أن حسابات إيران لم تكن في محلها، فليس من فجوة حساب كبيرة تفصل واشنطن عن تل أبيب، فوق أن بنيامين نتنياهو رئيس وزراء العدو، وجدها فرصة للهروب من إخفاق يطارده في حرب غزة، وحشد الرأي العام الإسرائيلي وراء ضربة انتقام من إيران، يعرف أن واشنطن لن تمانع فيها لاعتبارات حرج الموقف الانتخابي للرئيس الأمريكي جو بايدن، بل إن واشنطن تعهدت بالمساندة السياسية والدبلوماسية للضربة الإسرائيلية المقبلة، وفرض سلاسل عقوبات أمريكية وغربية مضافة على طهران، إضافة للتنسيق الوثيق في اختيار أهداف وحدود الضربة الانتقامية الإسرائيلية، وكما شاركت واشنطن بحماس في الدفاع عن إسرائيل، فلا يستبعد أبدا، أن تتشارك واشنطن مع تل أبيب في هندسة الهجوم الانتقامي الوشيك، الذي لم يجر بعد حتى ساعة كتابة هذه السطور، في وقت كانت تفضل طهران توقي الانزلاق إلى حرب واسعة مباشرة، وصممت ضربتها المحدودة الرمزية على أساس تفضيلاتها، ثم تجيء الرياح بما لا تشتهيه إيران اليوم، وترغمها على استعداد لجولة أو جولات أخرى، تستخدم فيها أسلحتها الأقوى هذه المرة، وما لم تفعل إيران، فسوف تعود إلى ما تسميه «الصبر الاستراتيجي»، وتفقد فرص الانتقال إلى ردع استراتيجي هددت به، ولم يؤت أكله في الضربة الإيرانية الأولى لكيان الاحتلال المنافس لها على تقرير مصائر المنطقة، فقد عاد الكيان إلى وضع الهجوم المباشر، وإلى حروب العلن بعد عقود طويلة من حروب الظل مع طهران، وقد يكون الهجوم المتوقع مزيجا من الضربات الظاهرة مع حروب الظل المخابراتية والسيبرانية، وأي تردد من إيران في شن هجمة معاكسة شديدة القوة، يهدد بمحو كل إنجاز بلغته طهران طوال ما يقرب من خمسة عقود، فقد بلغ صراع إيران مع الكيان إلى محطة حاسمة، قد تكون فيها «عواقب الجبن أفدح كثيرا من عواقب الشجاعة» بتعبير الروائي المصري الأشهر نجيب محفوظ ذات يوم بعيد.
كاتب مصري