على شاكلة كلّ عام، ثمة الكثير من المناسبات التي تستوجب الاستعادة؛ بصرف النظر عن مضمون الاستذكار، وسواء انطوى على الاحتفاء والتكريم أو الإدانة والتأثيم. 2022 ليس استثناء بالطبع، وللمرء حقّ الاختيار بين عشرات التواريخ التي يسجّل العام ذكراها، من المئوية والألفية إلى ما بين الرقمَين من أعداد مختلفة؛ وفي ميادين السياسة والاجتماع والاقتصاد والثقافة والحروب والسلام، على امتداد قارّات العالم.
وهذه السطور اختارت، من باب الاحتفاء الأقصى إذا جاز التعبير، رواية «عوليس»، التحفة الفريدة من الروائي والقاصّ الإرلندي الكبير جيمس جويس (1882 ـ 1941)، التي صدرت طبعتها الأولى مطلع 1922 عن «شكسبير أند كومباني»، المكتبة الباريسية الصغيرة التي كانت الأمريكية سيلفيا وودبريج بيش (1887 ـ 1962) قد افتتحتها قبل عام واحد. ولم يكن نشر الرواية مغامرة تجارية محفوفة بمخاطر الخسارة المؤكدة، فحسب؛ بل كانت، كذلك، مجازفة قانونية وأخلاقية لأنّ النصّ تضمّن ما عُدّ يومذاك منشورات إباحية بلغة مكشوفة يصنفها القضاء تحت بند البورنوغرافيا. جانب آخر بالغ الأهمية، توجّب استكشافه لاحقاً، يخصّ العلاقة الخافية بين الحداثة الأدبية مطالع القرن العشرين، والمال والأعمال والترويج والاستهلاك والـ»بزنس» بصفة عامة؛ إذْ، كما اظهر لويس رايني في كتابه الرائد «مؤسسات الحداثة: النُخب الأدبية والثقافة العامة»، أنّ جمهور الرواية الحداثية لم يكن الأوّل في ذهن الناشرة بيش، وأنّ اهتمامها انصبّ على نخبة محدودة من «كبار القرّاء والنقّاد»، ثم على نخبة أخرى غير متوقعة: أصحاب رؤوس الأموال المهتمين بالاستثمار في ميدان نشر أدب الحداثة وفنونها.
تلك الطبعة الأولى لم تتجاوز 1000 نسخة، فاخرة الطباعة، انحصر توزيعها في الاشتراك المسبق ولم تكن قيد الشراء المباشر، وكان سعرها باهظاً في مقاييس تلك الأزمنة؛ ولم يكن غريباً أنّ أسماء أوائل المشتركين لشراء الرواية ضمّت أمثال أرنولد بينيت، ألدوس هكسلي، إديث ستويل، فرجينيا وولف، ونستون تشرشل، هـ. ج. ولز، و. ب. ييتس، شروود أندرسون، جونا بارنز، وليام كارلوس وليمز، هارت كرين، وجون دوس باسوس. وحين مُنعت الرواية في الولايات المتحدة بعد أن رفعت «جمعية نيويورك لمحاربة الرذيلة» دعوى ضدها أمام القضاء، وأُدينت بالفعل كـ»رواية إباحية» ومُنع نشرها في أمريكا؛ سارع ناشر البورنو الشهير صمويل روث إلى إصدار طبعة مقرصنة من «عوليس» تُباع سرّاً، واستوجبت بيان احتجاج شارك في التوقيع عليه 162 من كبار مشاهير أمريكا وأوروبا يومذاك، كان بينهم أرنولد بينيت، ت. س. إليوت، إرنست همنغواي، ألبرت أينشتاين، د. هـ. لورانس، شون أوكيزي، برتراند رسل، فرجينيا وولف، و. ب. ييتس.
من جانب آخر، لكن في مثال إضافي يشير إلى ارتفاع أهمية الرواية على أصعدة تجارية/ ثقافية في آن معاً، في ثلاثينيات القرن الماضي انتبه الناشر جورج ماسي (الأمريكي، وليس الإرلندي أو البريطاني أو الفرنسي، للدلالة الخاصة) إلى موقع «عوليس» في السوق، واشتداد الإقبال عليها؛ فاتصل بالفنان الفرنسي هنري ماتيس، وكان يومذاك في أوج شهرته، وعرض عليه خمسة آلاف دولار (مبلغ كبير في حسابات تلك الأيام) مقابل رسوم داخلية لطبعة جديدة من الرواية. الإنصاف يقتضي القول إنّ التاريخ لا يسجّل نجاح ماتيس في قراءة الترجمة الفرنسية، من باب أنّ «عوليس نصّ شاقّ تماماً، بمقدار متعته الفائقة؛ ولكنّ إدراكه استلهام جويس لـ»أوديسة» هوميروس دفع ماتيس إلى إنجاز 26 رسماً، شغل كلّ منها صفحة كاملة في طبعة 1935. وفي حفل توقيع هذه الطبعة، وقّع الفنان التشكيلي 1500 نسخة، وأمّا الروائي نفسه فقد وقّع 250؛ وهواة النوع، من أثرياء البشر، يستطيعون اليوم شراء نسخة من تلك الطبعة، لقاء قرابة 40,000 دولار… فقط!
مثال ثالث، وأخير، مستمدّ هذه المرّة من سطوة الثقافة الشعبية العريضة والسينما الهوليودية، وقع سنة 1955 حين نشرت المصورة الصحافية الأمريكية الرائدة إيف أرنولد صورة غير عادية: مارلين مونرو «نجمة الإغراء» بلا منازعة يومذاك، ترتدي ثياب البحر، مستغرقة (تماماً للإنصاف!) في قراءة نسخة من «عوليس». هنا، أيضاً، لم يكشف التاريخ خلفيات اللقطة، وما إذا كانت قد التُقطت عفوياً كما للمرء أن يأمل، أم أنها استهدفت تجميل صورة مونرو ثقافياً وترقية ذائقتها الأدبية؛ لكنّ الثابت ظلّ، مع ذلك، أنّ ّعوليس» ترسخت في الوجدان الشعبي الأوسع على شاكلة أيقونة يتمسك بها إليوت شاعر حداثة تلك الأيام الأبرز، مثلما تفعل مونرو شاغلة الناس ومالئة الدنيا في زمنها. الرابح الأكبر في السيرورة ليس جويس نفسه، إذْ حصد الرجل من الشهرة والمجد ما كفى وزاد وطفح، بل ذلك النسق من حداثة عالية في السرد الروائي، شاقة بقدر ما هي ممتعة، وجسورة مغامرة بقدر اتكائها على منهج وتصميم واشتغال واجتهاد واستباق…
معروف، أخيراً، أن «عوليس» تتألف من 18 فصلاً، وتروي نهار ليوبولد بلوم (عوليس الرواية) برفقة ستيفن ديدالوس، وتُختم عند حجرة نوم موللي (زوجة بلوم) وأخيلتها الجنسية التي تسردها في ذلك الفصل ـ التحفة، الشهير، الذي يسير كجملة واحدة متصلة بلا أيّ علامة وقف. وقد نقلها إلى العربية المصري طه محمود طه 1982 ثمّ العراقي صلاح نيازي 2001.
على فكرة، كتاب «يوليس» حسب تعريب أدونيس (أو «عوليس» حسب تعريب طه محمود طه) تم نشره في البداية على شاكلة حلقات متتابعة في الصحيفة الثقافية (الأدبية) الأمريكية الشهيرة The Little Review، وذلك بدءا من شهر آذار (مارس) عام ١٩١٨ وحتى شهر كانون الأول (ديسمبر) عام ١٩٢٠ – إذن، مغامرة النشر للكتاب الذي اعتُبر كتابا «إباحيًَا» حينذاك حصلت أولا في أمريكا: هذا قبل أن تنشره الناشرة الأمريكية سيلفيا بيتش (وليس بيش) في باريس في اليوم الثاني من شهر شباط (فبراير) عام ١٩٢٢، وهو يوم ميلاد جيمس جويس نفسه سنة ١٨٨٢ تحديدا.. وبناء على ذلك، فقد كان من المنطقي والمعقول جدا من طرف صبحي حديدي أن ينتظر بمقاله المقتضب هذا حتى اليوم الثاني من شهر شباط (فبراير) المقبل (يوم ميلاد جويس) – إلا إذا أتانا صبحي حديدي نفسه بعد شهر منذ الآن بمقال آخر أكثر غنىً وأكثر إمتاعا عن الكاتب الدبلني الكبير !!!؟؟
على فكرة، كتاب «يوليس» حسب تعريب أدونيس (أو «عوليس» حسب تعريب طه محمود طه) تم نشره في البداية على شاكلة حلقات متتابعة في الصحيفة الثقافية (الأدبية) الأمريكية الشهيرة The Little Review، وذلك بدءا من شهر آذار (مارس) عام ١٩١٨ وحتى شهر كانون الأول (ديسمبر) عام ١٩٢٠ – إذن، مغامرة النشر للكتاب الذي اعتُبر كتابا «إباحيًَا» حينذاك حصلت أولا في أمريكا: هذا قبل أن تنشره الناشرة الأمريكية سيلفيا بيتش (وليس بيش) في باريس في اليوم الثاني من شهر شباط (فبراير) عام ١٩٢٢، وهو يوم ميلاد جيمس جويس نفسه سنة ١٨٨٢ تحديدا.. وبناء على ذلك، فقد كان من المنطقي والمعقول جدا من طرف صبحي حديدي أن ينتظر بمقاله المقتضب هذا حتى اليوم الثاني من شهر شباط (فبراير) المقبل (يوم ميلاد جويس) – إلا إذا أتانا صبحي حديدي نفسه بعد شهر منذ الآن بمقال آخر أكثر غنىً وأكثر إمتاعا عن الكاتب الدبلني الكبير !!!؟؟؟
ترجمة الأستاذ صلاح نيازي أرقى في الترجمة من غيره.فهوصاحب أسلوب ولغة عربية متمييزة النكهة.رغم صعوبة عوليس لكنه أجاد نقل روحها إلى العربية بأسلوب فني ، جعلها محببة للقراء.فهو كمن أضاف البهارات للحم مقدد.
مقال جميل لقلم أجمل.