لا أحد يتصور في لبنان ولا في خارجه، أن عون سينقلب على عون، الأخير هو ميشيل عون رئيس لبنان الحالي، والأول هو العماد جوزيف عون قائد الجيش، وليس بينهما نسب عائلي، كما يوحي اشتراك اللقب، وقد تولى جوزيف عون قيادة الجيش منذ نحو أربع سنوات، وهو عسكري محترف، بدأ سلم الجيش من قاعدته، حين تطوع شابا للعمل كجندي نهاية ستينيات القرن العشرين، وظل يتعلم ويترقى وصولا إلى مقعد القيادة، الذي يحجز عادة لضابط ماروني، كما تقضي المحاصصات الطائفية، وقد خرج جوزيف أخيرا عن صمته العسكري، وهو يشهد لبنان يتردى إلى قاع الجحيم، ورفض أن يقمع المحتجين الثائرين في شوارع الغضب، وامتنع عن تنفيذ أوامر الرئيس بفتح الطرق عنوة، وفضّل أن يتفاهم مع الغاضبين، وأن يقنعهم بفتح بعض الطرق في بيروت وما حولها. ثم ذهب العماد جوزيف عون إلى آخر مدى يستطيعه، و»بق البحصة» التي في فمه، وقال إنه حذّر مرارا من خطورة الوضع، وسأل المسؤولين المعنيين «على وين رايحين ؟» ربما من دون أن ينتظر جواب الرئيس عون، الذي سبق أن رد على السؤال نفسه قبل شهور في مؤتمر صحافي، وقال وقتها بالنص «رايحين على جهنم».
وبالطبع، لا يتوقع أحد انقلابا عسكريا يديره العماد جوزيف عون، هو فقط أراد أن يوصل صرخته الأخيرة علنا، وأن يفسر سبب رفض الجيش قمع المتظاهرين، الذين تجددت نوبات غضبهم المتصلة منذ انتفاضة 17 أكتوبر 2019، ووصل بهم الغضب إلى أقصاه مما يجري، ويهدد سلامة ما تبقى من الكيان اللبناني نفسه، وسط تدهور مريع في الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
تدنت قيمة الليرة اللبنانية إلى 11 ألف ليرة مقابل الدولار الواحد، وربما تنزل إلى 13 ألفا قبل أن تنتهي من قراءة هذا المقال، وقد نزل أكثر من نصف الشعب اللبناني إلى ما تحت خط الفقر، وربما ينزل ثلثا الشعب قريبا إلى الهاوية نفسها، مع تكدس ديون مفجع، وعجز لأغلبية اللبنانيين عن مواصلة تراجيديا البقاء على قيد الحياة، فكل يوم لبناني هو في شأن أسوأ مما قبله، على ما يبدو من فيديو راج على نطاق واسع، يصور حربا أهلية مصغرة على كيس حليب، في أرقى مناطق بيروت، وهو بؤس لم ينج منه إلا محاسيب أمراء الطوائف الوارثين لحكم لبنان، وقد استنزفوا البلد، واعتصروه فسادا ونهبا، وتكفي ثروة الواحد منهم لحل مشاكل اللبنانيين جميعا، وهم لا يبالون بما جرى ويجري، ولم ينجحوا حتى في تشكيل حكومة جديدة منذ شهور، كلفوا بها سعد الحريري الزعيم الأبرز في الطائفة السنية، ومن دون أن ينتقل خطوة واحدة من التكليف إلى التأليف، بسبب اشتراط الرئيس عون الحصول لجماعته على ما يسمى «الثلث المعطل» وعون يبرئ نفسه، وينسب التعطيل إلى الحريري، فيما يتفنن نبيه بري الزعيم الشيعي رئيس مجلس النواب، ويقدم اقتراحات بتدوير الزوايا، لم تصل بعد إلى حل ناجز، في ما رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب يرفع راية الاستسلام، ويرغب بما سماه «اعتكافا» وإلى أن يتوافق الحريري وعون، ويقدمان الهدية للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي وعد بتقديم مساعدات مالية، إن شكلت «حكومة المهمة» الموعودة.
خرج جوزيف عون عن صمته العسكري، وهو يشهد لبنان يتردى إلى قاع الجحيم، ورفض أن يقمع المحتجين الثائرين في شوارع الغضب
والعماد جوزيف عون ينطق بلسان الحال، ويوجه الخطاب لحضرات المسؤولين، ويسألهم ببساطة «ماذا تنوون أن تفعلوا؟» فالجيش والشعب في المأساة نفسها، ولا يعقل أن يضرب الجنود الجائعون أقرانهم من المتظاهرين الجائعين، فقد تبخرت قيمة رواتب العسكريين كالمدنيين، وفقدت ميزانية الجيش الضئيلة قيمتها الفعلية، ولم يعد بوسع الجيش، سوى أن يتلقى معونات أجنبية، تسد بعض رمقه واحتياجاته، ولا يستطيع أن يتحرك لإصلاح، ولا أن ينفذ انقلابا، لن يبقيه في السلطة ليوم ولا لبعض يوم، فأمراء وملوك الطوائف، يملكون السلطة كلها، وتوازنات الجيش الطائفية، تحجزه عن فرصة عمل سياسي موحد، وأمراء الطوائف اتخذوا لأنفسهم أزياء عصرية، في صورة أحزاب ودساتير ومواثيق وانتخابات وهيئات، جعلت الدولة في لبنان أشبه بشركة مساهمة، لكل طائفة فيها سهم معلوم، وثورات الشعب اللبناني فشلت في إزاحة جبال الهم، ووضعوا في مواجهتها انقسام الشوارع الطائفية، التي يتحصن بها الرئيس عون باسم حقوق المسيحيين، وباسم حقوق الطائفة المارونية، التي تزايدت فيها الشروخ، وعجز البطريرك الماروني بشارة الراعي في الوساطة بين الحريري وعون، ثم أخذ الأمر في يده، استنادا إلى ثقله الديني، وطالب بمؤتمر دولي ينتهي إلى إعلان «حياد لبنان» عن كل ما حوله، وشن حملة ضارية على ما يسميه «السلاح غير الشرعي» في إشارة إلى سلاح «حزب الله» وهو ما أثار احتقانا طائفيا مقابلا، يهدد بقاء الكيان اللبناني على علاته، ويضرب فأسا في ما تبقى من جذور سلام لبنان، وبما يستدعي أشباح خطر ماحق، قد ينزلق بلبنان مجددا إلى حافة احتراب أهلي. وقد لا يخفى على أحد عاقل، أن دفع لبنان إلى حرب أهلية جديدة، فوق مآسي التجويع والتدمير، هو الرابط الجامع بين المتربصين بلبنان، بدءا من كيان الاحتلال الإسرائيلي، إلى المطبعين والمتحالفين معه خليجيا، وبدعوى تعبئة الشعب اللبناني ضد سلاح «حزب الله» الموالي لإيران، ولعجزهم عن تدمير إيران، أو دفع الراعية أمريكا للقيام عنهم بالمهمة، فإنهم يلجأون إلى خيار إنهاك لبنان الصغير، وحجب أي عون عنه، وتركه يحترق داخليا، وهذه خطط مرئية معلنة، وليست مجرد مؤامرات في طي الكتمان، وهي المعطل الخفي الظاهر لأي جهد يسعى لإنقاذ لبنان، سواء من داخله بانتفاضات الطموح لتأسيس دولة مدنية على أساس المواطنة، لا محاصصات الطوائف، أو من خارجه بجهد المقل من أطراف عربية، تدرك أن دمار لبنان ـ لا قدر الله ـ يعني نكبة عربية قاصمة للظهر، تضاف لنكبة فلسطين ودمار العراق وسوريا واليمن، وجريمة هذا البلد الصغير الجميل عند من يريدون تدميره، أنه أنجب مقاومة وضعت أنف إسرائيل في الركام، وأرغمتها على الانسحاب الذليل من الجنوب اللبناني، وشكّلت قوة الردع العربية الباقية الوحيدة ضد إسرائيل في المشرق العربي، وصحيح أن إيران هي التي دعمت «حزب الله» بالسلاح والمال، وصحيح أن إيران مدت نفوذها الثقيل عبر «حزب الله» إلى شواطئ البحر المتوسط، لكن الصحيح أيضا، أن إيران توحش دورها، مع غياب أي مشروع عربي مقابل، وأن عجز العرب وتبعيتهم المزمنة لأمريكا وخضوعهم لإسرائيل، هو الذي زاد توسع إيران، التي يريد البعض جعلها العدو الأول للعرب بدلا من إسرائيل، التي صارت صديقا وحليفا وآمرا لنظم عربية بليدة متكاثرة كالفطريات، وكأن العروبة في ظنهم هي طاعة إسرائيل في المنشط والمكره، وكأن بنيامين نتنياهو عندهم هو الزعيم الجديد للقومية العربية، وهو سفه لو تعلمون عظيم، يغري أثرياء البترول بخنق لبنان، وتقديمه قربانا على مذبح إسرائيل.
وقد يكون تشكيل حكومة لبنانية جديدة، إن تشكلت، مانعا موقوتا لصواعق حرق لبنان، واستعادة للحد الأدنى من فرص بقاء الكيان اللبنانى على هشاشته، وإن كانت الصيغة اللبنانية سوف تبقى دائما في خطر، ما لم يتم التحول إلى نظام وطني مدني بديل عن النظام الطائفي المهترئ، الذي لا يليق بحيوية لبنان الأكثر نضجا عربيا، والصورة الأفضل قد يطول زمان الوصول إليها، خصوصا مع شراسة هجمات المتربصين ببقاء لبنان من الأصل، وربما تكون الضمانة الأهم لسلامة لبنان في هذه المرحلة، أن يبقى الجيش اللبناني على ضعفه موحدا، وأن يبقى على حسه الوطني الجامع ضد التهديدات الإسرائيلية، وفي السلوك اللافت لقائده الحالي العماد جوزيف عون، ما قد يذكرنا بأدوار تاريخية ناصعة لقيادات الجيش اللبناني، بينها موقف الجنرال فؤاد شهاب، الذي رفض تنفيذ أوامر الرئيس كميل شمعون بقمع انتفاضة 1958، وصار بعدها شهاب رئيسا للبنان في أزهى فتراته، قبل أن يتفتت الجيش، وتدور الحرب الأهلية، التي بدأت أواسط السبعينيات من القرن الفائت، وبعد توقف الحرب باتفاق الطائف، صار الجيش موردا غالبا للتوافق على اسم الرئيس الماروني، وعلى طريقة ما جرى لقادة جيش سابقين، صاروا رؤساء للبنان مع تغير الظروف، مثل الرؤساء إميل لحود وميشيل سليمان وميشيل عون الرئيس الحالي، وقد لا يستبعد أن يأتي جوزيف عون للرئاسة بعد ميشيل عون.
كاتب مصري
كان الله فى عون الشعب اللبنانى . لن يرتاح اباطره البلد الا على جثث الفقراء و المعوذين .
نريد مقالا عن الملء الثاني لسد النهضة
رفض أن يقمع المتظاهرين! ياله من قائد جيش يحترم مهمته ووظيفته، ولم يفعل مثل ذلك الجنرال الذي غدر بالرئيس الذي عينه وحنث باليمين الدستورية، واستولى على السلطة عنوة وخداعا،وأقام المذابح في الميادين والشوارع، ولم يبق على أحد من أتباعه بل أدخلهم السجن، وعفا عن بعضهم بعد أن استوعبوا الدرس ألا يفتحوا فمهم أكثر من اللازم!
عون الآخر قد يصبح رئيسا، وهذا بالطبع سيكون اختيارا نيابيا، وليس انقلابا عسكريا. نحسد لبنان رغم كل المآسي التي يعيشها، لأنه يستطيع أن يتكلم ويتظاهر، ويقول لرئيس الجمهورية : ارحل!
شكرًا أخي عبد الحميد قنديل. أتمنى أن تتحقق هذه النبوءة بأن يصبح عون القائد والمخلص للشعب اللبناني رئيسًا للبنان ويستعيد لبنان صحته وعافيته. أما بشأن المجرمين والقتلة الذين دافعوا وشاركوا بشار البراميل والكيماوي في قتل الشعب السوري، هل هذا الإجرام يستحق أي صفة إلا كونه إجرامًا! أقسم بالله أنني سأقف ضدهم وأحاربهم لو أرادوا أن بفعلوا ذلك بالشعب الإسرائيلي أو أي شعب أخر في هذا العالم فمابالك! ياأخي هذا التوحش الإيراني العربي المقاوم! هو الذي حطمتا ويحطم وجودنا الحضاري، يحطم الإنسانية نفسها! ومقاومة ماذا؟ وهل بقي شيء في سوريا ولبنان التي دمرهوها. لقد حققوا لإسرائيل الصهيونية مالم يحلم به شارون وباراك وأولمرت ونتنياهو ولاحتى بن غوريون نفسه.