يُقال إن رجلاً كانت مشكلته الخطأ في اختيار التحية التي تلائم الوقت المناسب لها، فتجده يُحيي بـ»صباح الخير» بينما شمس الظهيرة في كبد السماء أو يُحيي بـ»مساء الخير» بينما شمس الصباح ما زالت في أولها. وكثيراً ما كان يبادر ذاك الذي يتلقى التحية مصححاً للرجل تحيته بدل أن يقوم بردها. وصار تكرار هذا الأمر مؤرقاً له حتى احتار كيف يوقت تحيته توقيتاً لا تصحيح معه. وزاده الأمر إيلاماً أنّ الخطأ في توقيت التحية يجعله في موضع التندر حيناً والإشفاق حينا آخر، ونادراً ما كان يمر خطأ توقيت التحية من دون تندر ولا إشفاق.
وبمرور السنين صار الأمر معتاداً بالنسبة إلى الرجل الذي ما عاد يثيره أي تندر أو إشفاق ولم تعد تظهر على محياه أية علامة امتعاض سواء صُححت له التحية أو لم تصحح. وذات يوم نصحه أحدهم وبطيب خاطر أن يجعل تحيته «السلام عليكم» فهي تحية الإسلام أولا وهي تصلح لكل الأوقات ثانيا وبلا حاجة إلى مضاعفة أو إبدال. ومن وقتها والرجل يحيي الآخرين بهذه التحية فلا يردون عليه إلا بأحسن منها أو مثلها. وولى ذاك الزمان الذي كان فيه التندر والإشفاق توأمين يظهران في عيون من يبادر إلى تحيتهم.
أسوق هذه الحكاية للتمثيل على حالنا نحن العراقيين مع أزمة توقيت «العيد الوطني» الذي صار يتبدل مع تبدل الأنظمة والحكومات. فكل حكومة تأتي تفاجئنا بأنها اختارت لنا يوما تمنحنا بموجبه «عيداً» كما تشتهي وتعززه بعطلة رسمية لإشعارنا بأهميته، حتى بدد أمر التبديل في المواقيت وكثرة التلون في الاختيار إحساسنا بأن لنا بالفعل عيداً وطنياً.
وهذا الإشكال في اختيار العيد الوطني يجعلنا نتساءل لماذا تتخالف مواعيده مع اختلاف الحكومات، وهو أمر لا يحصل في أمم تحترم مناسباتها الوطنية، واحترامها ينبع من الاحترام الجماعي لها من لدن شعوبها؟
بالنسبة إلى حالتنا العراقية، فإن اليوم الذي لا اختلاف حوله شعبياً ولا تنازل عنه مبدئياً ولا تبديل فيه تاريخياً هو يوم انطلاق شرارة ثورة العشرين في 30 حزيران (يونيو) 1920 لتكون هي الثورة الكبرى والعارمة التي فيها توحّد العراقيون من أقصى بلادهم إلى أقصاها على كلمة سواء، مطالبين بانتهاء عهود الظلم والاضطهاد، مشعلين من شرارة التنوير سراجاً منيراً متقداً، ظل العراقيون يقبسون منه ثوراتهم وانتفاضاتهم وتظاهراتهم اللاحقة على مدى مئة عام، وكان آخرها تظاهرات 2019 التي فيها استعاد الشباب المنتفض شعارات الأجداد والجدات مستمدين منهم أوار المقاومة من أجل استرداد الحقوق.
وما زلنا إلى يومنا هذا ونحن نتباهى بالثورة العراقية الكبرى التي انتصرت على الإمبراطورية التي لا تغيب عن أراضيها الشمس وكبدتها خسائر فادحة، جعلتها تعيد من جديد حساباتها إزاء شعب عنوانه البطولة ومضمونه تاريخ سومر وأكد وبابل حتى أن ما توارثناه في مخيلة عقلنا الجمعي صار بمثابة وهج يستنهض في دواخلنا محبة وطننا كلما ضاقت بنا السبل وتلبدت سماؤنا وتضعضعت صفوفنا بفعل فاعل أجنبي أو بفعل أذناب الأجنبي وخدّامه الأذلاء.
وما دمنا لا نختلف نحن العراقيين على ثورة العشرين، فلماذا لا تكون هي عيدنا الوطني الذي فيه نستذكر بطولات غلبت خططاً إستراتيجية ونستلهم صولات واجهت أسلحة لم تكن لتُعرف آنذاك موادها ومكوناتها وهو ما أذهل المحتل الاجنبي.
وما من عيد هو عيد بمعنى الكلمة، ولا وطنية تنسب إلى عيد أو تضاف إليه سوى ذاك اليوم الذي صنعه العراقيون جميعا بأيديهم صناعة سومرية بالطين الحري وفي حوزتهم إيمانهم بالله وثقتهم بتاريخهم وقوة ما لديهم من عزيمة وآباء، فاجتمع المسلم والمسيحي والعربي والكردي وتعاضد المولد مع التعزية والعمامة مع السدارة واليشماغ واشترك ابن المدينة مع ابن الريف وابن البادية وتنافست الأمهات والأخوات والبنات على نظم الأشعار وابتكار الهوسات من أقصى كردستان وتلعفر وشارع الحيدرخانة إلى عانة وخان ضاري والسماوة والجبايش والنجف والحلة والكفل والكوفة والرارنجية.
ومن منا نحن العراقيين لا يحفظ عشرات القصص والحكايات التي فيها لكل مدينة وناحية وقضاء وقبيلة نصيب، به تفتخر تباهياً وزهواً فضلا عما نحفظه من أهزوجات قيلت في هذه الثورة وكان للمرأة العراقية مواقف مشرفة فمنهن من قاتلت واستشهدت ومنهن من حرضت على الفداء وساهمت في صنع النصر ومنهن من أنشدت الأهازيج وألهبت العزائم وشدت الأزر.
فليس غير يوم 30 حزيران (يونيو) يوماً نصفه بأنه عيد وطني.. وهل صنع العراقيون يوما مثل هذا اليوم الذي كشفوا فيه عما هو مكتنز في أعماقهم من تاريخ البطولة وذاكرة عريقة بالقيم العالية.. وكيف يمكن للحكام وحكوماتهم ـ أيا كانت مدنية أم عسكرية أم ما بين الاثنين عرفية وغير عرفية ـ أن تختار للعراقيين عيداً بديلا، وكل واحدة منها تلعن أختها التي قبلها ناكثة باليوم الذي اختارته عيدا بمزاجها ومشيئتها؟ وإلى متى يصادر الحكام خيارات شعوبهم وينوبون عنهم في اتخاذ قرارات بلا استبيان جماهيري أو استفتاء شعبي؟
بالطبع ليس أمام شعب لا تكترث حكوماته بخياراته ولا تعبأ برأيه سوى أن يتقبل الأمر باللااكتراث نفسه. وها نحن نرى الأيام التي اختيرت تأتي وتذهب كأي يوم إجازة يرتاح فيه المرء من عناء العمل وزحمة الطرق ليس إلا.
فاختير يوم 3 تشرين الأول (أكتوبر) فجأة ليكون عيداً كسابقاته من الأيام التي اختيرت قبله أعني يوم 23 آب (أغسطس) يوم تتويج الملك فيصل الأول على العراق ويوم 14 تموز (يوليو) الذي هو أقرب للانقلاب منه للثورة ويوم 17 تموز الذي كان خلاصة مجموعة تدابير سابقة فيها من التواطؤ ما ليس للشعب دخل فيه.
والحجة في اختيار يوم 3 تشرين الأول (أكتوبر) هي دخول العراق عصبة الأمم مع أن الكل يعلم أنه دخول مشروط بدخول معاهدة عام 1930 المذلة مع بريطانيا حيز التنفيذ، وهي المعاهدة التي رفضتها القوى الوطنية العراقية وكافحت من أجل إسقاطها ليكون الاستقلال منزوع المحتوى أصلا بهذه المعاهدة التي فُرضت بمناورات المحتلين واذنابهم عبر تقريب المعارضة الوطنية واسناد الحكومة إلى بعض فئاتها، ولكن تلك المناورات لم تنطل على أحرار العراق فقد أسقطوا بكفاحهم خمس حكومات متتالية ما بين الانتهاء من الاتفاق على المعاهدة وبين دخول العراق إلى عصبة الأمم والذي بموجبه سرت تلك المعاهدة المذلة.
ولا خلاف إذا قلنا إن الذي يجعل أي يوم من الأيام عيداً هو ما يؤججه في النفوس من مشاعر خاصة، يعبر عنها بطقوس لا تمارس في أي يوم غيره. وهكذا كانت أعياد السومريين والبابليين والأشوريين أعيادا صنعها الشعب نفسه وحدد شكل الاحتفال بها وابتكر الطقوس المرافقة لها كعيد انانا الذي فيه يحتفل البابليون بالحصاد والخصوبة وتقام فيه احتفاليات مقدسة وكذلك عيد اكيتو الذي يحتفل فيه بالقمر والشمس والربيع ويستمر لمدة اثني عشر يوما.
ومن حسن الحظ أن الأعياد التي تختارها الشعوب هي التي تبقى على مر الدهور والحقب، أما الأعياد التي يختارها الأقوياء السلطويون ـ حكاما كانوا أم برلمانيين ـ مصيرها الذوبان والتلاشي. وكم احتفى النظام الصدامي بعيد 17 تموز وكم كانت تسخر له الإمكانات وتهيئ له كل المقومات وتمارس فيه مختلف البدع والفذلكات ومع ذاك ذهب بمجرد ذهاب ذاك النظام، والسبب أن الأعياد الوطنية لا تُقسر قسرا كما لا ينفع في ترسيخها الترغيب والترهيب.
ونتساءل لماذا لم تُبدل الأمم الغاشمة – التي صنعت عصبة الأمم – تواريخ أعيادها الوطنية حين دخلت تلك العصبة/ الوكر؟ ولماذا يتوجب علينا أن نقدم فروض الامتنان لمن استعمرنا ولا ننظر إلى أنفسنا بوصفنا أسياد بلادنا، مقدمين شكرنا وإجلالنا لأولئك الأجداد الذين ثاروا ثورة رجل واحد معبرين عن لحمتنا الوطنية الواحدة؟ وكيف نقبل تقديم فروض العرفان لمنظمات معروف من يرعاها ويهيمن عليها وننسى من قاوم المحتل ولم يرد من وراء ذلك تاجاً ولا صولجاناً إنما أراد عراقاً حراً لا احتلال فيه ولا انتداب؟
*كاتبة من العراق