كما كشفت جريمة الإبادة التي يرتكبها الصهاينة في غزة نفاق الحكومات الغربية متسببة في انهيار شعاراتها الإنسانية والحقوقية والديموقراطية، فقد بينت ردود الفعل الشعبية تجاه هذه الجريمة الفرق الكبير بين المواطن «المتوسط» العربي والمواطن «المتوسط» الغربي، حيث أعني بكلمة «المتوسط» إنسان الشارع العربي وإنسان الشارع الغربي العاديين، اللذين ينطبق عليهما معظم «القياسات النسبية» للشارع العام.
إنسان الشارع الغربي في أغلبية المناطق ومعظم الحالات هو إنسان جُبل على الحرية، إنسان شكلت الألف سنة السابقة من الصراعات الدينية والسياسية والعرقية في مناطقه واقعه الحالي، لتستقر في أعماق نفسه فكرة عبثية الصراع الديني، خواء الصراع العرقي وفراغه من كل معنى، والأهم ثقل وعمق استحقاقه الحرياتي. إن النضال الغربي المطول من أجل الحريات والصراع الشعبي الطويل مع الملكيات متوحشة المنهجية والكنائس القمعية، عززت لدي الإنسان الغربي استحقاقه لحرية رأيه وتعبيره وأسلوب عيشه، استحقاقه للمشاركة الحقيقية في حكم نفسه، وكذلك استحقاقه في تشكيل الواقع الاقتصادي والتأثير على القرارات المالية لدولته بحكم دفعه للضرائب ومشاركته الحقيقية في مدخول دولته. لقد أصبحت هذه الاستحقاقات اليوم تحصيل حاصل للإنسان الغربي، أصبحت حقاً أساسياً من حقوقه كما حقوق المأكل والمشرب، يمارسها هذا الإنسان بكل أريحية ويذود عنها كما لو أنه يذود عن حقه الأساسي في الحياة.
وعليه، حتى حين التفت الحكومات الغربية المنافقة اليوم على شعوبها ونزلت بقواتها البوليسية قمعاً وتحجيماً لحراك هذه الشعوب في مساندة القضية الفلسطينية، استمرت هذه الشعوب في حراكها، واجهت الشرطة وتكافلت تحدياً أمام محاولات إخماد الصوت، حتى لبدا أن القضية أصبحت مركبة الآن بالنسبة للشارع الغربي، حيث بدأت بالقضية الفلسطينية واستمرت واستقوت بقضية حرية الرأي والنزول للشارع والحق في التعبير.
وها نحن نشهد مواجهات بين شرطة «العالم الحر» الذي تبدو حكوماته اليوم وكأنها تحاول الانقلاب على هذه الحريات، وبين شعوبه المتكافلة مع القضية الفلسطينية الشريفة، حيث تحدت هذه الشعوب القرارات الحكومية التي حاولت إخماد صوت حق واضح مثبت تاريخياً وسياسياً وحقوقياً، والأهم بالنسبة لهذه الشعوب هو تحديها للقرارات التي حاولت قمع حرياتها وإخماد صوتها تعبيراً عن آرائها أياً كان هذا الرأي، مستحقاً أم غير مستحق، مع موقف الحكومات أو ضده.
لقد تحولت القضية الفلسطينية في المجتمعات الغربية اليوم ليس فقط إلى قضية تحرر إنساني واستعادة أرض مسلوبة وإنهاء لأحد أسوأ صور الظلم والتعدي البشريين المتمثلة في الاحتلال العسكري العنيف الوقح الذي ينتهج هذا المنهج البدائي القديم لمفهوم البقاء للأقوى، وليست فقط قضية تثبيت للاستحقاقات والقواعد الحقوقية المدنية للقرن الجديد الذي يفترض أنه يمثل أوج التطور الحضاري البشري، ولكنها أصبحت كذلك قضية تمثل أهم حق اجتماعي إنساني ناضلت من أجله البشرية على مدى قرون وتحصل عليه إنسان العالم الغربي بعد أن دفع ثمنه غالياً، ألا وهو الحق في حرية الرأي والتعبير والتجمع والاعتصام والتجمع وإعلاء الصوت وفرض الإرادة الشعبية لشعب تعلم واستقر في جوفه أنه يحكم نفسه بنفسه. لقد أخطأت الحكومات الغربية خطأ فاحشاً حين انقلبت على هذه الحقوق المتأصلة في النفس الغربية، لتنكشف في لحظة أمام شعوبها ولتظهر داخلها العطن الذي طالما تغلف بغلاف العصرية والمدنية.
سيبقى الإنسان الغربي مناضلاً للحفاظ على هذه الاستحقاقات التي أصبحت كذلك ترمز لكرامته كمواطن، بل وكذلك كمقيم. حقوق الإنسان الغربي، بالنسبة له، هي من كرامته؛ وفي تنازله عنها، وخصوصاً الحق في التعبير، تنازل عن الكرامة واستهانة بها. أما الإنسان العربي، والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، فهو مجبول على التنازل والاستهانة، لم تلقمه مسيرته التاريخية الطويلة سوى المزيد من الخوف، ثم المزيد من الصمت: تمنعه حكوماته من التظاهر فيقول: آمين؛ تتعاون هذه الحكومات خفاء وعلناً مع الصهاينة فيقول: مساكين مجبورون؛ تساعدهم تسريباً للمؤن والأسلحة فيقول: مضطرون. مجبول على الصمت الإنسان العربي، مهدد في ماله وعياله وأمنه، حتى إنه تعلم درس «السير جنب الحيط» بإتقان، وها نحن نرى تجليات هذا الدرس؛ ففي حين أن العالم «الكافر» يثور ويتظاهر ويشكل المسيرات المليونية ضد أوامر حكوماته، والحالة الفرنسية هي الأوضح، يتخابى العالم العربي «المسلم» وينكمش على نفسه ويقيم الاحتفالات والمهرجانات، ويرقص مغنوه ومعجبوهم «على الوحدة ونص» حداداً على كراماتهم التي لا يبدو أنها كانت حية في يوم.
كلنا، بلا استثناء، لا نقدم ما يفترض بنا أن نقدمه، كلنا خائفون حزينون، لا أدري هل نأسى على كراماتنا المهدرة أم على حرياتنا المأسورة منذ قرون، أم على أطفالنا في فلسطين الذين يقتلون اليوم بالآلاف أمام أعيننا ونحن، نتاج الكرامات المهدرة والحريات المأسورة، على خوفنا وصمتنا مستمرون. أمة غريبة هي نحن، لا بد أن الفضائيين الذين نثروا عينات البشر على سطح الأرض لدراستها، وضعوا عينة مضروبة في الشرق الأوسط، لا أمل منها أو لها، فمتى تنتهي تجربتهم البشرية تلك، فنرتاح وننتهي؟