مع الذكرى الثامنة لثورة 17 شباط/فبراير، أضحى الانتعاش الاقتصادي الذي تعيشه ليبيا هو الخبر السار لدى أبنائها، وعليه يُعلّقون الآمال. السياسة بما تُمثّل من نظام حكم ودستور وانتقال للسلطة، لا تبدو في الأولويات. ينقل أحد الليبيين الذين يعيشون في العاصمة طرابلس مزاج الشارع: “العملية السياسية طبخة وراء الكواليس. الليبيون يعتبرون أن رؤية الساسة مُبهمة، كي لا يقولوا إن لا رؤية لديهم. الناس “فرحانة” بالتحسّن الاقتصادي، إذ بعدما تخطى سعر صرف الدولار الأمريكي عشرة دنانير ليبية، عاد اليوم لينخفض إلى 4.3 دنانير. الناس متفائلة بأنه سيعود إلى ما كان عليه قبل الثورة، حتى أن اللوحة الرسمية لسعر صرف الدينار في البنوك لا تزال تشير إلى 1.30 دينار مقابل الدولار، وهذا تعبير عن الأمل بالعودة إلى السعر الرسمي الذي كان قبل الثورة، في بلد يستورد غالبية السلع”.
إنه نموذج عن أولويات الليبيين اليوم، الذين يتوزّعون بين مَن يصف نفسه بـ “سبتمبري”، تماهياً مع ذكرى “الفاتح من سبتمبر” تاريخ الانقلاب – الثورة التي قادها معمر القذفي في العام 1969، وبين مَن يصف نفسه بـ “فبرايري”، في إشارة إلى “الربيع الليبي” الذي انطلقت شرارته في 17 شباط/فبراير 2011، وأطاح بنظام القذافي. فالعملية السياسية – بما تعنيه من توافق الأطراف الليبية السياسية والتنظيمات المسلحة والدولة الهشة على مستقبل ليبيا ودستورها، وتأمين تداول السلطة وضمان الحريات – لا تحتل مراتب متقدمة، ولا يبدو أن القوى السياسية قادرة على تحريك الشارع بسهولة باستخدام هذه العناوين، بعدما شكّل شعار “الشعب يريد إسقاط النظام” حافزاً لانتفاضة الجماهير.
الواقع الليبي المعقّد تتداخل فيه العوامل الجهوية والقبلية، وحسابات كل من مناطق الغرب والشرق والجنوب وتنوّع التنظيمات المسلحة فيها، وتدخلات القوى الخارجية التي لبعضها مصالح مشروعة، كونها دول جوار تخشى على أمنها القومي، فيما يتّخذ البعض الآخر منها ساحة يستخدمها كورقة في صراع النفوذ الذي يستعر بين لاعبين كُثر: من أوروبا والتباين الفرنسي – الايطالي إلى أمريكا المتفرّجة، ودول الجوار الجزائري والتونسي والمصري، مروراً بالإمارات وتركيا وقطر، وروسيا العائدة إلى هذه الساحة، وصولاً إلى التنظيمات المتطرّفة، المُدرجة في إطار المنظمات الإرهابية، التي تريد أن تجعل من هذا البلد ملاذاً آمناً لها، وسط تحدّيات التداخل الجغرافي مع تشاد والنيجر والسودان وغيرها من الدول.
هذا الواقع لا يشي بإمكان دخول ليبيا إلى فلك الدول المستقرة، وهو أمر ليس مستغرباً ما دامت المنطقة برمتها متأججة بالصراعات والحروب. هي اليوم تتأرجح بين “الدولة الهشّة” و”اللادولة”، وسط انقسام حاد في مؤسساتها، بين الشرق الذي يديره البرلمان الليبي بدعم من “الجيش الوطني” بقيادة المشير خليفة حفتر، والغرب الذي تتمركز فيه “حكومة الوفاق الوطني” المُعترَف بها دولياً. انقسام داخلي يدور، في جانب منه، على العملية السياسية ومندرجاتها، لكنه أيضاً يتعلق بنفوذ الأقاليم وتوزيع الثروة النفطية وتأمين المصالح الخاصة ويعكس بدوره تبايناً خارجياً حول العناوين ذاتها. أضف إلى ذلك التحدّيات الماثلة أمام القيّمين على البلاد، بتنوع انتماءاتهم وبعيداً عن صراعاتهم، للتصدّي لظاهرة الإرهاب التي لا تقتصر على ليبيا، بل تتعداها إلى دول العالم.
المبعوث الأممي إلى ليبيا غسان سلامة، الذي تولى مهامه في آب/أغسطس 2017 يَجهد لتنفيذ “خارطة الطريق”، والدفع قدماً بالعملية السياسة علّها تحقق اختراقاً فعلياً هذا العام. لكنه يدرك أن مرتكزها الأساسي لتحديد طريق النجاح من عدمه، يبدأ من “الملتقى الوطني” لمختلف الأطراف الليبية، الذي يجمع قوى “ما قبل الثورة” وقوى “ما بعد الثورة”، فيجلس الـ “سبتمبريّون” مع الـ “فبرايّريون”، كذلك تتحاور “قوى فبراير” مع بعضها البعض، ليخرج الملتقى بإعلان اتفاق شامل على خطة عمل تستند إلى إجراء انتخابات نيابية يليها استفتاء على الدستور، ثم إجراء انتخابات رئاسية.
مهمة يعتريها الكثير من الصعوبات للبمعوث الأممي، الذي يسير بين ألغام الداخل ومطبّات الخارج وطموحاته، عله يحقق هذا العام “إنجازاً ما في خارطة الطريق”، يضع الليبيين أمام استحقاق التوصل معاً إلى تسوية حول مستقبل بلادهم تفتح الباب أمام بداية جدّية لبناء الدولة، حتى ولو كان المسار طويلاً. هذا في وقت تشخص فيه الأنظار اليوم نحو الجنوب الليبي الذي دخلته قوات حفتر، وبسطت سلطتها على مدينة سبها، وسيطرت على حقل الشرارة النفطي، ونحو الاتجاه الذي ستسلكه الأمور، وما إذا كان سيتم تسليم الحقل إلى “المؤسسة الوطنية للنفط” أم سيتم استثماره كـ “ورقة ضغط” في الصراع السياسي القائم في البلاد؟
يُحرّك شهر “فبراير” في الذاكرة الليبية صوراً زاهية وأخرى قاتمة. تختلف الصورة باختلاف زاوية الرؤية. يخرج أبناء ثورة “فبراير” للاحتفال، ويترحّم أبناء ثورة “سبتمبر” على الحقبة السابقة من حكم معمر القذافي، الذي لقي مصير غيره من الحكام العرب ممن لم يلتقطوا إشارة “أن أوان ترك الكرسي قد حان”.
“فبراير” 2019 لا يُشبه كثيراً “فبراير” 2011 في ليبيا، بفعل تبدلات في المشهد: صراع “الأخوة”، غياب المشروع الليبي الجامع لقيام الدولة، عودة أنصار النظام السابق بقوة إلى قلب اللعبة، تضارب مصالح اللاعبين الخارجيين، نجاح التنظيمات الإرهابية في خلق موطئ قدم لها في هذا البلد، وغياب الإرادة الدولية الحقيقية لإخراجه من براثن الفوضى. لكن الشارع الليبي تراه اليوم يتحدث عن بداية استفاقة وتبلور الوعي وانقشاع في الرؤية قد تحتاج إلى مزيد من الوقت لترجمة سياسية لها، غير أنها تُشكّل مبعث أمل له، خصوصاً إذا استكان لمتطلبات حياته اليومية اقتصادياً وأمنياً!