اتسم موقف الاتحاد الأوروبي الرسمي بالسلبية من المجلس العسكري الحاكم في السودان بعد خلع الرئيس عمر حسن البشير في 11 نيسان/ابريل الماضي. وجاء هذا الموقف عبر تصريحات رسمية أشارت إلى عدم اعتراف المنظمة الأوروبية بسلطة العسكر التي أوقفت العمل بالدستور وعطلت سير الحياة السياسية في البلاد. وكان التصريج الأبرز بهذا الخصوص على لسان فيديريكا موغيريني مفوضة السياسة الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي في كلمتها أمام البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ خلال مناقشة الشأن السوداني يوم 17 نيسان/ابريل الماضي، إذ أعربت عن موقف الاتحاد المتمثل بعدم الاعتراف بشرعية المجلس العسكري الانتقالي في السودان، مطالبة بانتقال سياسي يقوده المدنيون بقولها؛ “إن المجلس العسكري لن يقدم الإجابات الصحيحة على مطالب الشعب” وأضافت “أن الاتحاد الأوروبي ينتظر من المجلس العسكري خطوات تزيد الثقة به، وأن من بين هذه الخطوات: إطلاق سراح المعتقلين السياسيين، ومعاقبة المسؤولين من قوات الأمن على الهجمات التي استهدفت المتظاهرين السلميين وأدت لمقتل العديد منهم خلال الفترة الماضية”. وأشارت إلى أن “اتخاذ هذه الخطوات سيمكن من إطلاق محادثات سياسية ذات مغزى بين جميع الأطراف في البلاد”.
وقد سعى المجلس العسكري ممثلا بقياداته الرسمية مبكرا إلى كسب ثقة المجتمع الدولي، إذ عقد الرجل الثاني في المجلس، الفريق محمد حمدان دقلو الشهير باسم حميدتي، قائد قوات الدعم السريع، سلسلة اجتماعات مع السفراء الغربيين، لشرح وجهة نظر المجلس وموقفه إزاء المطالب الشعبية، فقد التقى أولا القائم بالأعمال الأمريكي ستيفن كوتسيس، ثم التقى رئيس بعثة الاتحاد الأوروبي جان ميشال دوموند، والسفير البريطاني في الخرطوم عرفان صديق، والسفيرة الهولندية في الخرطوم كارين بوفين. والمعروف عن حميدتي قربه من مراكز القوى الأوروبية، على خلفية تعاون قوات الدعم السريع السودانية مع الاتحاد الأوروبي في محاربة الهجرة غير الشرعية من إريتريا وإثيوبيا. وهو أمر طالما نفاه الممثلون الرسميون للاتحاد الأوروبي. لكن تجدر الاشارة إلى ان حميدتي سبق له ان هدّد القائمين على الاتحاد الأوروبي في خطاب تلفزيوني بوقف التعاون إذا لم يعترفوا علنًا بتعاونهم مع قواته. وقد كشف تقرير صحافي عن دور قوات حميدتي في وقف مهاجرين في صحراء السودان وهو ما اعتبرهُ مراقبون بمثابة إضافة للجرائم التي سبق وان ارتكبتها قوات حميدتي في دارفور.
كما تجدر الإشارة إلى التوتر الحاصل بين المجلس العسكري السوداني والمجتمع الدولي بشكل عام، والمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي بشكل خاص على خلفية قرارات الإدانة السابقة الصادرة بحق الرئيس السوداني المخلوع عمر حسن البشير، فقد أدين البشير من المحكمة الجنائية الدولية وصدر بحقه أمر اعتقال في 2009 و2010 لاتهامه بـ “تدبير إبادة جماعية وأعمال وحشية أخرى” في إطار حملته لسحق تمرد في إقليم دارفور.
وقد طالبت المحكمة الجنائية الدولية السلطات السودانية بالإسراع في تسليم الرئيس البشير للمحكمة في هولندا أو محاكمته في الخرطوم على الجرائم التي ارتكبها في إقليم دارفور، وجاء على لسان المدعي العام للمحكمة فاتو بنسودا خلال جلسة مجلس الأمن المنعقدة في المقر الدائم للمنظمة الدولية في نيويورك، في حزيران/يونيو الماضي لمناقشة التقرير الدوري الذي تقدمه المدعي العام للجنائية الدولية حول السودان. إذ أشارت بنسودا في كلمتها بالقول؛ “لدينا خمسة أوامر اعتقال صادرة عن المحكمة الجنائية الدولية بشأن الوضع في دارفور، وجميعها لا تزال سارية بحق عمر حسن البشير، الذي تم اعتقاله واحتجازه الآن، وحسب ما ورد تم احتجاز إثنين آخرين من المشتبه بهم، وهما عبد الرحيم حسين، وأحمد هارون في الخرطوم” وتابعت؛ “يبقى السودان ملزما قانونيا بنقل هؤلاء المشتبه بهم إلى المحكمة الجنائية الدولية للمثول أمامها، ما لم يكن بإمكان القضاء السوداني أن يأخذ على عاتقه العمل على مقاضاتهم في القضايا نفسها داخل السودان”.
ويبدو أن موقف المجلس العسكري من أمر تسليم البشير للمحكمة الجنائية الدولية ما زال يلفه الكثير من الغموض، إذ صرح في وقت مبكر رئيس اللجنة السياسية المكلفة من المجلس العسكري الانتقالي في السودان، الفريق أول عمر زين العابدين بعد يوم واحد من إطاحة البشير بالقول: “لن نسلم البشير إلى الخارج، لكن سنحاكمه داخل السودان لأن هذه قيمنا وأخلاقنا”. لكن يبدو ان مياها كثيرة جرت في نهر الأحداث وغيرت توجهات العسكر والشارع تجاه هذه النقطة، فقد صرح ياسر عرمان نائب رئيس الحركة الشعبية للإعلام قبل أيام بضرورة تسليم البشير للمحكمة الجنائية الدولية لأنه يواجه “إتهامات في غاية الجدية من أعلى هيئة قضائية في العالم”.
ويبدو أن حلفاء المجلس العسكري السوداني الإقليميين يلعبون دورا كبيرا في تطبيع العلاقات الأوروبية مع المجلس العسكري السوداني، ومن الواضح ان الدور المصري هو الأبرز في هذا الشأن، فقد ذكرت مصادر مقربة من الخارجية المصرية في تسريبات إعلامية أن؛ “دبلوماسيين من فرنسا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا، فضلاً عن شخصيات سياسية مرموقة في هذه الدول، تعتمد بشكل أساس على المعلومات المصرية لاتخاذ القرارات في الشأن السوداني، وأن الاتصالات بهذا الخصوص بدأت منذ اندلاع الثورة ضد الرئيس المخلوع عمر البشير، وتواصلت على مدار الأسابيع الستة الماضية”. وكشفت أن “الخارجية المصرية طلبت أخيراً من بعض الدول التي تحظى بعلاقات خاصة مع دول الاتحاد الافريقي والتكتلات الجغرافية الرئيسية فيه، ضرورة الضغط على تلك الدول لتمرير بقاء أهدأ للمجلس العسكري الانتقالي، ريثما تحين الفرصة لإجراء انتخابات نيابية أو لإعداد دستور جديد، وفقاً لما تسفر عنه مفاوضات المجلس العسكري والتيارات السياسية”.
كما يبدو تأثير السعودية والإمارات جليا في دعم المجلس العسكري السوادني، فبعد المنحة المليارية التي قدمت للسودان، تسعى السعودية والإمارات إلى تحسين صورة المجلس العسكري أمام الحلفاء الغربيين، ونتيجة ذلك جاء تحذير مدير تحرير موقع “ميدل إيست آي” البريطاني، الصحافي ديفيد هيرست، من أن السعودية والإمارات لا تريدان على الإطلاق قيام حكومة مدنية مستقلة في السودان. إذ قال في مقال نشره مؤخراً: إن “المخطط الإماراتي السعودي لوأد الثورة الشعبية في السودان ذو وجهين؛ يتجلى أحدهما في دعم وتسليح المجلس العسكري الانتقالي الذي يتفاوض مع المحتجين، بينما يرمي الآخر إلى استغلال القادة المدنيين الذين يسعون إلى تطهير الجيش والحكومة والخدمة المدنية والقضاء من الإسلاميين”. وأضاف: “بعد أن يُفلح الإماراتيون والسعوديون في مخططهم سيستولي حلفاؤهم السودانيون على السلطة في البلاد”.
وقد رحب الاتحاد الأوروبي بنجاح الأطراف السودانية في 5 يوليو/تموز الجاري بالتوصل إلى اتفاق ينظم العمل في المرحلة الانتقالية المقبلة عبر تشكيل مجلس سيادى يستمر بالعمل ثلاث سنوات، فضلا عن تشكيل حكومة مدنية تضم كفاءات وطنية مستقلة، ويعتبر هذا الاتفاق خطوة هامة لتحقيق الأمن والاستقرار والسلام فى البلاد، لكن تبقى عين القوى الأوروبية تراقب أداء العسكر في السودان طوال المرحلة المقبلة، وفي هذا الإطار جاءت زيارة وزير الخارجية الفنلندي بيكا هافيستو يوم 9 تموز/يوليو الجاري إلى الخرطوم، وهو خبير في الشأن السوداني وعمل ممثلا خاصا للاتحاد الأوروبي في إقليم دارفور في السودان خلال أعوام الأزمة 2005 -2007.
وذكر بيان صدر عن مكتب الممثلة العليا للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية في الاتحاد الأوروبي، فيديريكا موغيريني، أن الوزير الفنلندي سينقل إلى المجلس العسكري الانتقالي موقف الاتحاد المتعلق بالسودان. وقد أتت هذه الزيارة في منعطف هام، عقب التوصل إلى اتفاق القوى السودانية على ترتيب المرحلة الانتقالية، وقال هافيستو إنه أبلغ السودانيين دعم الاتحاد الأوروبي القوي، والتأكيد على ضرورة مواصلة المفاوضات التي ستفضي سريعا إلى نقل السلطة إلى حكومة مدنية.