“مروحين” قرية سُنية صغيرة – 220 منزلاً بالإجمال – تقع على السفوح الغربية لجبل بلاط، شمالي القرية الزراعية زرعيت. أجواء قمم وطلة تحبس الأنفاس – من صور والنبطية في لبنان إلى خليج حيفا؛ من البحر المتوسط حتى جبل ميرون. الارتفاع يمنح المحتل وهم السيطرة. في 2006 اجتزتُ القرية ليلاً في قوة لواء ألكسندروني بقيادة قائد اللواء شلومي كوهن. جئنا من النور – إلى ظلام الحرب. لبنان أشاح لنا بوجهه.
في بداية الحرب إياها، قصف سلاح الجو القرية، فقتل بين 18 و28 مواطناً، معظمهم أطفال. اللبنانيون سموا الحدث “مذبحة مروحين”. صبوا غضبهم على إسرائيل والأمم المتحدة؛ على إسرائيل لأنها قصفت، وعلى الأمم المتحدة لرفض جنودها فتح بوابات مجالاتهم لطالبي اللجوء. المجالان -المنطقة التي بين القرية والجدار الحدودي- يحل فيهما اليونيفيل اليوم. جنود من غينيا يجلسون في مواقعهم ويعبئون التقارير التي لا منفعة منها. طلبت منهم إسرائيل الإخلاء، فرفضت الأمم المتحدة. والجيش وحزب الله يخوضان حربيهما من فوق رؤوسهم.
أما مروحين فكانت قرية، ولم تعد كذلك. بداية، اختفى السكان. ومقاتلو لواء الاحتياط 205 الذين احتلوا القرية وجدوا في المنازل غذاء منتهياً تاريخه. السجلات في مبنى المجلس انقطعت قبل سنتين: إما أنه لم يكن مواطنون ليسجلوهم أو أن رئيس القرية أخذ معه آخر السجلات. والأكثر تشويقاً هو أن الجنود وجدوا وثيقة نقل ملكية تخص منزلاً من مواطن محلي إلى حزب الله. ويوقع على الوثيقة فؤاد شكر، الذي كان القائد الأعلى للمنظمة، إلى أن صفي في بيروت.
مكان السكان هذا احتله جنود الرضوان والدفاع اللوائي. ملأوا منازل القرية بالذخيرة: كله بمواصفات رسمية، مسجل، مصون – جيش مرتب، غني، ممول. خصصت إيران مليار دولار لحزب الله كل سنة. والنتائج ترجمت إلى الميدان: مجالات محصنة، وذخيرة، ومصانع إنتاج، ووحدات خاصة، وتجنيد وتدريب قوات، وعقارات. ينشغل الجيش الإسرائيلي الآن في لبنان بتدمير القيمة من الجو وعلى الأرض.
الإغلاق الذي فرضته إسرائيل على الموانئ، على مطار بيروت ومعابر الحدود إلى سوريا، محكم أو شبه محكم. يبدو أنه لا يوجد طريق لأن تعاد مخازن حزب الله التي فقدها إليه، وحسب التقدير السائد، نحو ثلثي مخزونه من الصواريخ.
نحن نكثر من الاهتمام بما تفعله قوات معادية لإسرائيل في كل الجبهات، ويقل اهتمامنا بما لا تفعل. نظام الأسد يكاد يتعرض لهجمات كل ليلة ينسبها العالم لإسرائيل. أصيبت في الهجمات طرق توريد إلى لبنان والجهات المسؤولة عنها في الجيش السوري. واختار الأسد عدم الرد. خطة الحرب لدى نصر الله بنيت على تعاون سوريا. آلاف الصواريخ كان يفترض أن تتفجر في الأراضي الإسرائيلية. أما الأسد فقرر البقاء على الحياد. ويدعي محللون متفائلون بأنه يحاول الآن شق طريق جديد، بين المحور الإيراني والمحور السعودي.
للروس طريق خاصة بهم ليكونوا في القصة وألا يكونوا فيها في الوقت نفسه. هم حاضرون في سوريا، لكنهم يحافظون على مسافة. سجلوا أمامهم نجاعة دمر فيها سلاحنا الجوي بطاريات الـ اس 300 التي قدموها للدفاع الجوي الإيراني. فهل سيزودون إيران الآن ببطاريات محسنة من طراز اس 400؟ ليس مؤكداً. كل رئيس وزراء إسرائيلي اقترح فكرة على بوتين، من باراك وأولمرت وبينيت حتى نتنياهو سمع على لسانه جواباً قاطعاً، “أفعل ما هو جيد لروسيا فحسب”. أو كما قال لي ذات مرة إسرائيلي تفاوض مع الروس في الميدان: “الكل يعمل وفقاً لمصالحه، لكن هذا متصلب أكثر بكثير لدى الروس. لا مشاعر لديهم”.
المبعوث الأمريكي عاموس هوكشتاين الذي وصل إلى البلاد أمس، يبدأ جولة المحادثات الحالية في أجواء متفائلة. يبدو أن الجميع يتمنون وقفاً للنار في لبنان: الأمريكيون، البريطانيون، الفرنسيون، الروس، وربما الإيرانيون أيضاً، والحكومة في لبنان، والجيش الإسرائيلي، وحزب الله. الأساس هو قرار مجلس الأمن 1701 لعام 2006. الجدال يدور حول الشروط المرافقة. اعتقد جهاز الأمن أن تحقيق تفاهم مع الولايات المتحدة سيكون كافياً، تفاهم يفيد بأنه عندما ينتهك الاتفاق، يحق للجيش الإسرائيلي الرد بالنار وبالدخول إلى لبنان، بدعم الأمريكيين.
الآن، على خلفية الإنجازات العسكرية، وعلى خلفية توقعات السكان في الشمال، وعلى خلفية الثمن الذي تدفعه إسرائيل كل يوم بالدم – 88 قتيلاً في أكتوبر فقط، في لبنان وغزة، وأمس في المطلة والكريوت – باتت إسرائيل مطالبة بمزيد من الضمانات. نتنياهو، الذي خاف من الدخول إلى لبنان، يخاف الآن الخروج منه.
هدد غالنت بأن يعيد لبنان إلى العصر الحجري. في “مروحين” وبلدات أخرى قرب الجدار الحدودي، تحقق التهديد بكامله. أول أمس، عندما تجولت في المنطقة، ترددت في مسألة ماذا سيحصل هناك بعد خروجنا؛ ما الذي نريد حدوثه. الجنود الذين التقيتهم يتخيلون شريطاً فارغاً من الناس، مقفراً كما هو الآن. ومثلهم سكان الشمال. هل هذا هو الحل الصحيح. هل هذا هو الحل الممكن؟
سلاح في كل بيت
قائد لواء المدرعات 205 هو العقيد يوآف شنايدر، ابن كيبوتس في الشمال، لحيته التي طالت في الشهر الذي قاتل فيه اللواء داخل لبنان، تشهد على أنه ولد أشقر. التقينا أول أمس، في مدخل زرعيت. تفجر صاروخ واحد من صواريخ كثيرة على مقربة من المكان، وهز أرض القرية التي أصبحت تحت جنازير الدبابات. يفضل الجيش التحرك في جيبات هامر مفتوحة داخل لبنان: هي غير محصنة، لكن سرعتها توفر الأمن.
المحطة اللواء الأولى في لبنان كانت لبونا، أرض محصنة من شمال رأس الناقورة. قال اللواء: “تخيل 8 آلاف دونم من الأحراش تضم بنى تحتية عسكرية، من فوهات وأنفاق وخنادق، ووجدنا أيضاً حقائب ظهر من كوريا الشمالية. كوريون شماليون كانوا هناك أيضاً”.
أراني الخارطة: عشرات من النقاط الحمراء ترمز إلى الأماكن التي عمل فيها حزب الله. وقال: “فجرنا وطهرنا، عدنا إلى زرعيت ودخلنا من جديد، إلى جبل بلاط”.
في الـ 18 سنة التي كانت إسرائيل فيها داخل لبنان، كان على رأس جبل بلاد استحكام للجيش الإسرائيلي يسمى “كركوم”. يوجد مكانه الآن جهاز استشعار يستخدمه حزب الله للاتصالات. تسلق جندي عامود الاستشعار وعلق عليه علم إسرائيل.
نظرنا إلى غرب لبنان من أعلى الجبل. سحابة دخان سوداء تصاعدت من ضواحي مدينة صور: سلاح الجو قصف هناك. والجيش الإسرائيلي دمر كل البيوت على الجبل إلا واحداً.
نزلنا إلى مروحين. فقال قائد اللواء: “في كل بيت من بيوت القرية وجدنا سلاحاً”. أكبر مباني القرية هو المسجد. لسبب ما، لم يؤشر عليه في الخرائط ككنيسة. لم يتبقَ منه شيء غير الأنقاض والمئذنة. كل المنازل في القرية دمرت باستثناء اثنين.
في حرب لبنان الثانية، في 2006، بقيت القرى سليمة تقريباً. الدمار الحالي يعلل بكميات السلاح الهائلة التي اكتشفت في البيوت. ليست بيوت سكن، بل مخازن سلاح. لكن ربما يوجد هنا شيء آخر أيضاً، إرادة كامنة لخلق واقع جديد: كون كل لبناني حي يعتبر الآن عدواً، والأمنية هي تفريغ المنطقة من كل لبناني. والثأر أيضاً مثلما يحصل في غزة – ألا يكون لهم مكان يعودون إليه.
هذا مفهوم على خلفية مشاعر حزن بلا أساس في اختبار الواقع، وبلا أساس أيضاً من ناحية أخلاقية. في النهاية، سيتحقق اتفاق، وسيعود الناس، وستبنى البيوت في جنوب لبنان وغزة أيضاً. يقلل الناس الآن من القراءة في الكتب المقدسة (التناخ) اليوم. وخسارة، سفر التكوين يروي عن سكان سدوم وعمورة، الذين وقعوا في خطايا جسيمة جداً. قرر الرب إبادتهم. “حذار أن تفعل مثل هذا الأمر، فتقتل الولي مع الشرير”، صرخ إبراهيم على الرب. لعل الرب يسمح لنفسه، لكن دولة إسرائيل ليست الرب.
حظيرة جنود تنزل من رأس الجبل. لم يلصق أحد منهم شارة “مسيح” إلى كمه، إشارة لصحة العقل أو مؤشر على التأثير المبارك للقول الذي لا لبس فيه من رئيس الأركان. اثنان منهم يسحبان عبوة ثقيلة على الظهر – ذخائر تركها حزب الله في الميدان، إحداهما في جذع شجرة زيتون وأخرى في حرج. وجندي ثالث وجد علماً لبنانياً قديماً ممزقاً ومثقوباً. “إذا بقينا هنا لأشهر سنجد المزيد من الأشياء كل يوم”، قال أحد الضباط.
وروى يقول إن الجنود بدأوا يعلمون الصخور هنا بعلامات زرقاء وبيضاء وبرتقالية مثلما في “الدروب الإسرائيلية”.
النقيب احتياط بنيامين تروبر، خدم بين 7 أكتوبر 2023 و7 أكتوبر 2024 ما مجموعة 284 يوماً. ينبغي أن تضاف إلى هذا العدد ثلاثة أسابيع انقضت منذئذ. هو مقدسي، متدين، له خمسة أبناء، قريب عائلة للنائب حيلي تروبر. في الحياة المدنية هو مرشد جولات للجمهور الديني القومي في شرقي القدس، وفي الجيش هو قائد كتيبة 21 في اللواء.
يقول عن طول الخدمة: “هذا لا يمكن إدراكه”.
ما كنت أعتقد أني سأصمد في هذا، قلت، فابتسم وقال: “زوجتي بطلة العالم. عندما أعود إلى البيت فإني أزعجها وأشوش النظام فيه.
إن استعداد جنود الاحتياط للخدمة لزمن طويل بهذا القدر مذهل، ويدل على تعطش الإسرائيليين، بعد سنتين من خلاف داخلي عسير، للإجماع والوحدة. ومثلما هي ظاهرة مؤثرة، فإنها هشة أيضاً والكل يفهم هذا.
قال تروبر: “عندي قادة سرايا تصرخ عليهم زوجات الجنود في اتصالات هاتفية. لا يتلقى الجندي التسريح إلا لواحد من سببين: السلام العائلي أو الولادة. كان لنا جندي وصل ابنه إلى سنة البلوغ بعد “فرحة التوراة” السنة الماضية. ألغي احتفال سن البلوغ، لكننا أعطيناه تسريحاً هذه السنة لاحتفال بسن بلوغ متأخر”.
ناحوم برنياع
يديعوت أحرونوت 1/11/2024