من المعروف أن أبي جعفر المنصور الخليفة العباسي، بنى عاصمته الجديدة التي سماها المدينة المدورة، دار السلام (بغداد) في الجانب الغربي من نهر دجلة، أي الكرخ، وهي كلمة من الأصل (كرخو وكرخا) وتعني المدورة باللهجتين (البابلية والآشورية) من اللغة الأكدية الأم، ومنهما انتقلت إلى الآرامية، ومنها نستعمل حتى اليوم في العامية العراقية كلمة (جرخ) بمعنى عجلة. وأصبحت هذه المدينة المحاطة بسور مزدوج، لأسباب دفاعية عسكرية، عبارة عن مكان مغلق لقصور أمراء بني العباس، ودواوين الحكومة وبعض الأحياء السكنية للنخبة.
عندما جاء المهدي بن المنصور من مدينة الري، نزل بجنده في الجانب الشرقي من المدينة، وأمره الخليفة المنصور بالاستقرار هناك، حيث أقطع أمراء الجيش الأراضي، فبنوا وتوسعوا وأنشأوا الأسواق، وسمي الجزء الجديد من المدينة (الرصافة) وهي في اللغة على وزن فعالة، وهي كلمة للدلالة على البقية من الشيء الكثير، وأصلها إما من رصف الشوارع بالحجارة، أو تعني المنبت والمغرس، كما يقول مصطفى جواد في كتابه عن بغداد، وقد سبقت رصافة بغداد رصافات، منها رصافة الشام، التي بناها هشام بن عبد الملك غرب الفرات قرب مدينة الرقة، وباتت تعرف باسم (رصافة هشام) وكذلك هنالك (رصافة ابي العباس) التي شيدها أبو العباس السفاح كجزء من مدينته الأنبار، التي أسسها كعاصمة لبني العباس قبل أن يبني المنصور عاصمته الجديدة. وكان كل البناء في الرصافة أول عمرانها مبني بالطين، إلا قصر المهدي الذي عرف لاحقا باسم (قصر الرصافة) الذي اكتمل بناؤه حوالي عام 159هـ، والجامع الكبير الذي عرف لاحقا بـ(جامع الرصافة).
وقد أعتقدت أن أبيات «عيون المها» الشهيرة، تشير إلى مكان معين في رصافة بغداد، لم تفصح عنه القصيدة، كأن يكون بين (قصر الرصافة) والجسر، أو بين (جامع الرصافة) والجسر، أي أن فيها إشارة لمكان ما، وليس لجانب الرصافة من المدينة. لكنني تفاجأت ببعض المعلومات عندما بحثت عن الأبيات وقائلها وقصتها الشهيرة. إذ تقول سيرة علي بن الجهم (188هـ – 249 هـ) إنه شاعر من أصول قرشية، ولد في خراسان، وانتقلت أسرته إلى بغداد وهو طفل، وتربى في بيت علم وأدب، ودرس على يد علماء كبار كالامام أحمد بن حنبل، تنقل بين خراسان ومصر والشام، وقد قربه الخليفة المتوكل الذي انقلب على المعتزلة، وقرّب أصحاب الحديث من الحنابلة، ومنهم علي ببن الجهم، لكن دسائس القصر خربت العلاقة بين الشاعر والخليفة، الذي أمر بسجنه، ثم نفيه، وبعد أن أفرج عنه، ذهب بن الجهم لقتال جحافل الروم، التي كانت تهدد الدولة العباسية، فانتقل إلى مدينة حلب التي خرج منها بجماعة للجهاد، فاعترضه جمع من أعدائه من الأعراب الكلبيين، فقاتلهم حتى قتل عام 249 هـ. ويرد في بعض كتب الأدب والتراث العربي حكاية طريفة تحولت بمرور الزمن إلى (حكاية/ أسطورة) تقول: وقف شاعر بدوي لأول مرة بين يدي الخليفة العباسي المتوكل مادحاً، وكان شاعرا فصيحا مجيدا، ولم تسعفه قريحته بأجمل من أبيات أنشدها أمام الخليفة:
أنت كالكلب في حفاظك للود وكالتيس في قراع الخطوبِ
أنت كالدلو، لا عدمناك دلواً من كبار الدلا، كبيرَ الذنوبِ
أصابت الحاضرون في مجلس الخليفة الدهشة، بعد سماعهم أبيات الشاعر الذي يمدح الخليفة بأنه كالكلب في حفظه الود، وكالتيس في مواجهة المصاعب والأخطار، لكن الخليفة المتوكل، وحسب الحكاية لم يغضب، ولم يندهش، وأدرك بلاغة الشاعر، ونبل مقصده وخشونة لفظه وتعبيره، وأنه لملازمته البادية، فقد أتى بهذه التشبيهات والصور والتراكيب، لأنه ابن بيئته الصحراوية. ثم يأمر الخليفة للشاعر بدار جميلةٍ على شاطئ دجلة، ليخرج منها إلى محال بغداد يُـشاهد الناس ومظاهر مدينتهم وحضارتهم وترفهم. فيُـقيم علي بن الجهم مدة من الزمن على هذه الحال، والعلماء والوجهاء يتعهدون مجالسته ومحاضرته، ثم يستدعيه الخليفة، فينشده الشاعر قصيدة جديدة، فتكون المفاجأة، قصيدة من أرقّ الشعر وأعذبه، يقول فيها:
عيون المها بين الرُّصافة والجسر جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
خليليَّ، ما أحلى الهوى، وأمـرَّهُ وأعرفني بالحلو منه وبالمُر
بما بيننا من حُرمةٍ هل علمتما أرقَّ من الشكوى، وأقسى من الهجرِ
وأفضح من عين المُحب لسِـرّهِ ولاسيما إن أطلقت عَبرةً تجري
فيقول الخليفة المتوكل عند سماعه القصيدة الجديدة؛ «انظروا كيف تغيرت به الحال، والله خشيت عليه أن يذوب رقة ولطافة». وقد وردت هذه (الحكاية/الأسطورة) كما يشير فاروق مواسي في كتاب محيي الدين بن عربي (توفى 638 هـ) (محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار) لكن المفارقة أن بن عربي يذكرالحادثة والشاعر في كتابه بالقول؛ «حكى لنا بعض الأدباء عن أبي الجهم، وكان بدويا جافيا، لما قدم على المتوكل إلخ «، ونقل عنه محمد أبو الفضل إبراهيم وعلي محمد البجاوي ومحمد أحمد جاد المولى في كتابهم قصص العرب، في موضوع (بين البادية والحضر) اعتمادا على حكاية بن عربي، ويبدو أنها انتشرت بعد ذلك. وبعد النظر والتدقيق لابد من القول في بداية الحديث عن هذه (الحكاية/ الأسطورة) إن الخليفة المتوكل على الله العباسي الذي حكم (232 هـ – 247 هـ) عاش في عاصمة الدولة العباسية حينذاك، وهي مدينة سامراء التي أسسها والده المعتصم، وتولى المتوكل الخلافة فيها، وفي آخر سنة من حكمه نقل مقره إلى مدينة أسسها قرب سامراء سماها المتوكلية، أي لا علاقة للمتوكل بالرصافة، ولا ببغداد. كما أن هذه القصة غير موجودة في كتاب «وفيات الأعيان وإنباء أبناء الزمان» لابن خلكان – تحقيق إحسان عباس، الذي ذكرت فيه ترجمة علي بن الجهم، ولم يذكر شيئا من هذه القصة الطريفة، كما إن هذه القصة غير مذكورة في كتب المتقدمين كالجاحظ وابن قتيبة والمبرِّد ممن عاصروا تلك الحقبة.
كما أن أبا الفرج الأصفهاني كان قد تناول سيرة علي بن الجهم بالتفصيل في كتابه «الأغاني» وقد أفرد الأصفهاني لترجمة علي بن الجهم أكثر من ثلاثين صفحة تناول فيها الكثير من النوادر والقصص والحكايات، التي مرّت بحياة الشاعر، ولم يذكر قصة مديحه للمتوكل بالبيتين (أنت كالكلب…) المشار لهما.
ويبقى السؤال: كيف غدا الشاعر جلفًا يوم مدح المتوكل؟ علما أن الشاعر مدح المتوكل ذاته في قصيدة يوم بويع بالخلافة، ورأى فيه الإمام المنتظر: (ديوان علي بن الجهم)
أحسن خلق الله وجهًا إذا بدا عليه حُلّة تَزْهَرُ
وأخطب الناس على مِنبر يختال في وطأته المنبر
فأمّر الله إمام الهدى والله من يَنصره يُنصر
يا أعظم الناس على مسلم حقًا ويا أشرف من يفخر
ولماذا لا نجد الرواية الطريفة في مصادر الأدب المختلفة؟ إن ترجمة حياة الشاعر ومنذ نشأته تدل على أنه كان متديناً فاضلاً، متبعا لما يعرف بمدرسة الحديث ومن أشهر أئمتها الأمام أحمد بن حنبل، التي أعلنت عداءها للمعتزلة، وللاطلاع على سيرة علي بن الجهم يمكن مراجعة «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي، وكتاب «وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان» لابن خلكان. كما كانت صداقته الحميمة مع أبي تمّام شهيرة، وقد رثاه بقصيدة مشهورة، فمن أين جاءت صفة (بدوي جلف) التي ألصقت بالشاعر علي بن الجهم وتصويره وكأنه لم يعرف الحياة في الحواضر مع أنه نشأ في بغداد؟ بينما تشير مصادر سيرة علي بن الجهم أن نجمه سطع في خلافة المأمون، والمعتصم، فالواثق، فالمتوكل. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن خليل مردم محقق ديوان علي بن الجهم، الصادر عن منشورات دار الآفاق يذكر رأيا مهما عن البيتين «أنت كالكلب…» فيقول: «البيتان ذكرا في خبر يظهر عليه الوضع، والذي نراه إن صحت نسبة البيتين له أنه قالهما في أحد مجالس المتوكل يعبث ببعض الندمان أو المضحكين».
كاتب عراقي