غابة خضراء بين مدينتين

المغرب ـ سعيد السوقايلي
حجم الخط
0

 هتفتُ من حيث لا أدري: رائع، لقد حطمتُ أربعة أرقام قياسية دفعة واحدة ! وها أنا أصل منشرح الصدر، كما لو أنني حققت انتصارا كبيرا، عيناي على الساعة، لقد قطعت مسافة تسعة كيلومترات خلال خمس وعشرين دقيقة، يا له من رقم لم أكن أحلم به، خاصة أنني كنت أتخطى الأربعين دقيقة في أسوأ الأحوال. لا يهم الآن، أخيرا وجدت عزاء بعد كل هذا الضغط الذي يغشاني يوميا وأنا أرسم طريقا متعرجا أحفظه عن ظهر عين، بين هاتين المدينتين، اللتين على وشك أن تلتصقا لولا الغابة الصغيرة التي تفرق بينهما كفاصلة خضراء، ولكم وددت لو ركنت سيارتي وترجلتُ تائها بين شجيراتها الوديعة لأنعم بصداقتها بعض الوقت، لكن العمل اللعين ينادي كسيد إقطاعي يستعجل عبده، فيا لها من عبودية معاصرة.

في هذه المدينة آلاف الصور واللقطات تجتاح ذاكرتي مثل بالوعة كبيرة، في كل متر مربع، تلتقط مشهدا وتخزن، سيارات تمرق رأسا، وتنقذف في كل متاهة، آلاف الواجهات والحيطان والأعمدة والعناوين تجتاحني وتملأ ذاكرتي، أدواء الزعيق، أغير محطات الإذاعات في كل دقيقة، ثرثرات، أشباه أغنيات… أسابق الريح، والسيارات، أرشف شايا يكاد يبرد، وأقضم خبزا لا أعرف ماذا وضعت داخله وعيناي زائغتان في كل اتجاه، فتختلط أمامي الرؤية وتتداخل بين المرايا والطريق، أبحث عن هفوات وفجوات سيارات أمامي، لأندفع كسهم طائش، مدفوعا، متوترا… صورة الغابة الخضراء لا تفارقني وأنا أخوض سباق هذا الرالي كل صباح، أتثاءب، وأرشف الشاي… الشرطي يلوح من بعيد مستعجلا أنْ أسرعوا، صافرته لا تهدأ، أرفع عيني إلى السماء، سرب طيور معدودة تمرق نحو مشرق الشمس، أغبطها، فرملة أمامي تعيدني إلى هذا النهر البشري الذي لا فكاك منه.
في الشارع الطويل، ألمح من بعيد الرادار بعينيه الجاحظتين، ألاطفه وأخفض من سرعتي كي لا يلتقط لي تذكارا سيئا. أتجاوزه، أهمس له: تبا لك.
أرفع درجة السرعة والضغط، أتجرع وأكرع إسفلت الشارع وصورة شجيرات الغابة الخضراء تدافع بهرجة المدينة كي تحجز لها مكانا ضيقا في ذاكرتي، لا جدوى، لكن، وبدون أن أعي شيئا، إشارات المرور تسعفني هذه المرة، أبلغ الأولى وأتجاوزها، الثانية، الثالثة، وأخيرا الرابعة… بدون أن تُشهر في وجهي ورقتها الحمراء، أحس بسعادة كبيرة.
إنجاز وعزاء كبيران، لقد حطمت أربعة أرقام دفعة واحدة، كم يعجبني أن يشتعل الأخضر أمامي بساطا أخضر بدون اعتراض… هكذا وصلت للعمل ونصب عيني لون أخضر ساطع، لكنه لا يشبه لون الغابة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية