من أعظم ما يكتشفه قارئ مخطوط كتاب «الأخلاق» لأرسطو الموجود في خزانة القروين، هكذا لخصه القاضي، ويعني به ابن رشد، ومن الحكمة أن نعترف بأن القاضي قام بمجهود كبير من أجل رفع الغموض على النص الأرسطي، ولولا الشارح الأكبر لظل أرسطو ملتبسا على أوروبا وعلى العالم العربي.
نحن إذن أمام نص فلسفي لذيذ وغامض، شعاره بناء صداقة بين الأخيار من الناس، غايتها تشييد السياسة المدنية كسبيل للمدينة الفاضلة، ذلك أن الإرادة الطيبة وحدها تؤسس للصداقة بين الأخيار. أما انتقاد صداقة ذوي الرداءة، لأنها تؤثر على طبيعة الصداقة كعاطفة بين الأخيار، ويدمرون براءة التدبير السياسي، والشاهد على ذلك، أنه عندما تنتقل الرئاسة للعامة: «ويجتهدون أن تكون الرئاسات أبدا لقوم بأعيانهم، ويكون الرؤساء ذوي رداءة.. وتنتقل رئاسة الكرامة إلى رئاسة العامة»، ما يخشاه كتاب «الأخلاق» هو بناء السياسة على الرداءة، أي بدون أخلاق، لأن ما يجعل من السياسة سياسة هو انصهارها في الأخلاق، ولعل ما يدافع عنه رواد مدرسة فرانكفورت، الذين أرادوا نشر التنوير انطلاقا من النقد الموجه للمعرفة والسياسة والأخلاق، وربما يكون النقد الكانطي للعقل ودعوته إلى عصر التنوير، هو المحرك الأول لهذه المدرسة، بيد أن ما هو مسكوت عنه يظل هو كتاب «الأخلاق» لأرسطو، الذي تناول السياسة من وجهة نظر الصداقة، لا باعتبارها مسألة ذاتية بين اثنين، بل كأساس للمجتمع السياسي الذي يحقق السعادة للشعب، بمعنى أن غاية الصداقة هي السياسة، وأن هدف السياسة هو السعادة، فإذا فسدت الصداقة، فسدت السياسة وظل الشعب شقيا. ولعل صداقة الفيسبوك لأكبر شاهد على ذلك، إما من خلال فضح الفساد، أي النقد الموجه للمجتمع السياسي والسلطة والدولة، وإما من خلال التضامن على منفعة المجتمع، ذلك أن الفضاء الأزرق تحول إلى حزب سياسي معارض، تحاول السلطة إرضاءه والتفاعل معه، وتلبية مطالبه أو قمعه.
لم يكن أرسطو يجهل أهمية الصداقة في ازدهار السياسة ودورها في بناء الدولة المدنية التي تحكم بالحرية، وتسعى إلى تحريض السياسة على إسعاد المجتمع، ولذلك تناولها بعمق فلسفي في كتاب الأخلاق، باعتباره مدخلا لكتاب السياسة الذي سيهيمن على تاريخ الأحكام السياسية في الغرب، ومن المؤسف أن هذا الكتاب لم يصل إلى الأندلس، كما أعلن عن ذلك ابن رشد، لأن هناك من قام بحرقه ليترك المجال فارغا أمام وحدانية التسلط .
ما يجعل من السياسة سياسة هو انصهارها في الأخلاق، ولعل ما يدافع عنه رواد مدرسة فرانكفورت، الذين أرادوا نشر التنوير انطلاقا من النقد الموجه للمعرفة والسياسة والأخلاق.
نحن إذن أمام مؤامرة سياسية تخشى انتشار الكتب الفلسفية، لأنها ستنشر الوعي بأهمية الصداقة بين أفراد الشعب، وقيمتها في وحدة الغاية السياسية والتوجه إلى الاستبداد السياسي نفسه، الذي سيخفي بشاعته وراء القناع الديني، وإلا كيف يمكن تفسير اختفاء كتابي «الأخلاق» و»السياسة» دفعة واحدة؟ ولماذا تم ترويج كتاب «سر الأسرار» المنحول عن أرسطو، وممارسة التغليط في الأداب السلطانية؟ بل من كان وراء هذا القمع الفكري ونشر الأوهام والخرافات في المجتمع؟
ومهما يكن من أمر هذه المؤامرة، فإن أرسطو يظل هو المعلم الأول عند الفلاسفة العرب عامة وابن رشد خاصة، ولذلك كانوا يتحدثون عنه بإعجاب كبير، لأنه منقذ الإنسانية من الظلام، وكان هيغل رائعا عندما اعترف بفضل أرسطو على الإنسانية جمعاء، حين قال: «إذا ما أردنا أن نتحدث عن معلم البشرية، فذلك بلا شك هو أرسطو، فإن ذهنه الثاقب قد نفد إلى كل أرجاء الوجدان الإنساني ولبث مدة أجيال طوال عمدا واحدا لازدهار الفكر». ومن أجل منع هذا الازدهار الفكري وقمع التنوير، تدخل حراس العدمية ودمروا أرسطو بواسطة إشعال النار في كتبه، هكذا نجد ابن رشد يشكو من هذا العصر المضطرب قائلا: «والقسم الأول من هذه الصانعة يتضمنه الكتاب المعروف بالنيقوماخية لأرسطو، والثاني يفحص عنه في كتابه المعروف «السياسة»، وأيضا في كتاب أفلاطون الذي نروم تلخيصه ها هنا نظرا لأننا لم نحصل على كتاب أرسطو». كم هو مدهش هذا الاعتراف الرشدي الذي ينذر ببداية عصر الانحطاط، فما حملته البداية سينفجر بعد نكبة الفيلسوف، حيث صارت كتبه ترمى في النار أمام عينيه وهو متوجه إلى منفاه الأخير .
فالتحليل النقدي لهذه الظاهرة، سيضعنا في عمق أزمة الحضارة المغربية التي فقدت الكتب والأندلس في الآن نفسه، ما جعلها تصدر ابن رشد على ظهر دابة إلى الأندلس، وتستورد الأصولية، هكذا انتصرت الأسطورة على العقلانية، وانطلقت الهيمنة وفرض الطاعة على العلماء بالفعل والفلاسفة. ولم يعد بالإمكان الحديث عن جدل العقل والتنوير، ولذلك يجب أن لا يخدعنا هذا الهدوء السابق على العاطفة، فمنع الكتب واحتقار العلم والفلسفة ظل هو نفسه، وتعظيم هيمنة المذهب الأشعري والفقه المالكي، سيجعل من دين الدولة علم الدولة، هكذا أضحت ممارسة السلطة مجرد ممارسة للموقف العدمي والفوضوي، الذي يروجه له الأئمة والفقهاء بواسطة مفهوم البدعة. وإجمالا يمكن قراءة انتشار صداقة الرداءة ورداءة السياسة في هذا الأفق الظلامي.
٭ كاتب من المغرب
رايع وجميل ، وهنيئا للأستاذ عزيز الحدادي