غربة ثلاثية الأبعاد

تاريخ غربتي بعيد، ربما منذ بدأت أشعر بالوحدة في بلاد تضيق جدرانها على أبنائها ليصبح الوطن بحجم البيت العائلي ومن ثمَّ الغرفة الخاصة. خطوة صغيرة، خارج زنازين الأعرف والتقاليد، تكفي ليشعر الانسان بالغربة عن واقعه ومحيطه ويبدأ بالبحث عن أفق أوسع خارج حدود الوطن الصغير. فيغادر بلاداً لا تغادره، يحملها معه كما تحمل السلحفاة بيتها فوق ظهرها، يخفي الشوق والحنين ويتكور على نفسه كما تفعل السلحفاة عندما تخفي رأسها، ولكنه ينسى أن السلحفاة قد تنجح في إخفاء رأسها ولكن ظهرها يفضحه دوماً تحدبه.
‘أنا من سورية’…عبارة أرددها كثيراً في بلاد الاغتراب، أقيس بها المسافة بين القلب والعقل، بين الواقع والوهم، أنا من هناك ولكنني هنا.
‘هنا’ هي مساحة أرض بجهات أربع يحدها الشوق من كل مكان، بعيدة وقريبة بحسب عدد الساعات التي تفصلها عن ‘هناك’.
و’هناك’ هو شرق أوسطهم وبلادنا التي لم نخترها ولكننا لا نكون من دونها، علاقتنا بهناك مركبة كعلاقتنا بوالدينا، نتعلق بهما أطفالاً ونتمرد عليهما مراهقين، نحنُّ إليهما راشدين ونتمنى الموت بين أحضانهما ونحن عجائز. ‘هناك’ هي البلاد التي نكتشفها حقيقة ونكتشف أنفسنا معها، وكأننا نراها بعين ثالثة عندما نراها من مسافة بعيدة وكافية لكي تبدو الصورة كاملة ومكتملة.

جغرافية غربتي ثلاثية الأبعاد، شمال، شرق وغرب…. أما الجنوب فغائب لأنه موقع بلدي الغائب.
غربة الشمال: ‘أهلاً بك في ألمانيا’…العبارة الأولى التي تستقبلك عندما تطأ قدمك أرض المطار، ولكنك لا تلمسها في وجه الشرطي المنتظر على باب الطائرة القادمة من العالم الثالث، شعرك الأسود هو موضع شبهة وبشرتك السمراء دليل اتهام حتى يثبت العكس. تستوقفك للوهلة الأولى الأرض اللامعة والوجوه الكالحة، فليس من السهل الابتسام هنا مادامت الشمس لا تعرف الابتسام ولا تقرمش القلوب الباردة.
إنها البلاد المتقدمة في ميزان الحضارة وبدرجة حرارة تحت الصفر في ميزان الحرارة، وكأن الجسد البشري يحتاج لدرجة حرارة منخفضة لينتج ويتفوق، وكأن الشمس تدعو للاستلقاء والكسل حيث تشرق في بلاد الشرق.
قف…سر… لليمين أفضلية المرور…في الأماكن المأهولة سر بسرعة المشاة…وعلى الطريق السريع لا حدود للسرعة ولا نهاية.
في ألمانيا ليس السير وحده يخضع للقانون بل كل تفاصيل الحياة، كعلاقات الجوار والتعايش، الحب والشجار، الصحة والمرض، القمامة والنظافة. وما دمت تحترم القانون فالقانون يحترمك ويحميك، وتذكر أنك حر ما دمت لا تتعدي على حرية الأخرين وحقوقهم المكفولة بجكم القانون وأمره.
‘تك تك تك’ التعويذة الألمانية…هو صوت الأسنان وهي تصطك من البرد، ولكنه صوت الوقت أيضاً يمر من ذهب ليضبط ساعتك، فكل شيء يسير بدقة وانتظام. هنا شعب خرج من الحرب العالمية الثانية محطماً، وبلاده مدمرة، ولكن بكثير من النظام والإرادة استطاع بناء بلاده من جديد، وبكثير من المسؤولية والرقابة الذاتية نشأ جيل جديد من الألمان، فليس غريباً أن تجد على ناصية شارع مكتبة بلا بائع، تأخذ كتاب وتترك كتاب مكانه، لا رقيب إلا ضميرك وأمانتك وشغفك بالقراءة.
هنا ستعتاد على أسئلة ساذجة عن الاسلام والإرهاب وسبب وضع المرأة للحجاب وسبب عدم وضعك أنت له. ستشرح مطولاً وتعيد وتكرر نفسك وستستغل محاسن اللغة الألمانية وأن الفعل والمغزى كثيراً ما يأتي آخر الجملة، وكأنها خدعة النحو وتحايله ليجبر مخاطبك على الاستماع لك حتى النهاية. ولكن لا نهاية لحنينك ولا نهاية لغربتك التي لا تجد لها كلمة تترجمها للألمانية سوى أن تقول هي: ‘أن لا أكون في بلادي’،
وأمام عجز اللغة الألمانية، المغرقة في الفلسفة والمنطق، في أن تجد مرادفاً لأكثر مشاعرك عمقاً، وأمام عجزك عن الحضور في مجتمع ستبقى فيه غريباً ومهاجراً مهما لويت لسانك وخرجت من جلدك، ستجد نفسك أخيراً تبحث عن الجهة التي تشرق فيها الشمس، فتحزم حقائبك وتتجه شرقاً.
غربة الشرق:
‘ ‘welcome to Dubai
الجملة المكتوبة بالإنكليزية في الإمارة العربية ليست تفصيلا عابرا بل هي جزء أساسي من فلسفة وتركيب هذه المدينة، فمدينة العولمة لا تنطق كثيراً بلغة الضاد ولكنها تتقن لغة العولمة بامتياز. لتفهم المدينة وسرها عليك أن تدع جانباً ما تحمله الذاكرة من مدن المراجع ومراجع المدن، وتدخلها بذاكرة عذراء. فلا شيء هنا يشبه المدن التقليدية، لا شوارع ضيقة تعبر كشرايين القلب بين البيوت المتلاصقة، ولا مارة يقطعون الطرقات الواسعة، ولا مقاهي للأرصفة ولا أرصفة للمقاهي. لا مدينة قديمة ولا تاريخ للمدينة الحديثة، التاريخ تحفظه رمال الصحراء وتسمعه أصداء البحر ولا أثار ومعالم تشهد عليه. هنا مدينة تنظر للمستقبل ولا تلتفت للماضي.
سحر المدينة ليس في مراكز التسوق الضخمة وواجهات محالها التجارية بل في اختلاط الصحراء بالبحر بتناغم وانسجام، وفي اختلاط الشعوب والثقافات في تعايش وسلام. ففي دبي تسير المرأة الامارتية المنقبة جنباً إلى جنب مع المرأة الأوروبية المرتدية للباس البحر، وكلتا المرأتين تستمتعان معاً بحيز الأمان والحرية الذي تمنحه المدينة لقاطنيها بلا قيود، ولعل هذا التسامح والتعايش هو سر نجاح الامارة ووصفتها السحرية، فلا أحد يعتدي على حرية الآخر ولا أحد يفرض على الآخر نمط حياته وأسلوب لباسه ومأكله وشرابه.
حتى الصحراء هنا تحترم حدودها، ولا تتعدى على البحر إلا لتنسيه جنون البحار وتعلمه هدوء الصحارى وسكونها. أتذكر أحلى اللحظات في دبي وأنا أنظر في عين الشمس ورمال الصحراء تتسلل إلى قدمي ولا أسمع إلا خشخشة روحي، وأحس بملوحة المياه بين قدمي، فأتذكر أنني بعيدة عن الصحراء وعلى قرب خطوتين لا أكثر من البحر الأزرق. أقلب صفحات الكتاب بين يدي وأبحث عن الكلمة الضائعة في قاموس السكون المفتوح على المعنى أمامي، سكون لا يقطعه إلا موسيقا عصافير صغيرة هاربة من الصحراء تغني قرب أذني، منتظرة بقلق أن أترك لها بعضاً من الخبز والماء لتشرب وتعود أدراجها.
أنت في امارة دبي الصغيرة والعالم في محاذاتك، يكفي أن تجلس في مطعم ما لتسمع حولك عشرات اللغات الأجنبية وترى وجوهاً وأعراقاً مختلفة وكأنك من على كرسيك الصغير تزور العالم كله دون أن تتحرك قيد أنملة. لا شعور بالاغتراب في مكان كل سكانه غرباء، أنت انسان معولم في مدينة معولمة وكل العالم بمطابخه وثقافته في متناول يدك مادامت يدك مليئة بالنقود، فالرفاهية التي تحيط بك عليك أن تدفع ثمنها مقدماً لتستمتع بها لاحقاً.
هي مدينة الأغنياء ومدينة المال والاقتصاد، أما الفقراء ورغم أن المدينة لم تشيد إلا بأيديهم العاملة، إلا أنهم محجوبون عن واجهة المدينة اللامعة، معزولون في مساكن عمالية بائسة في أطراف المدينة، يعيشون ويمضون لياليهم بعيداً عن عيون الأثرياء ومنازلهم الفاخرة التي شاركوا في بنائها، وشاركوا في تشييد مدينة لا ترتوي من ألقاب على شاكلة ‘الأكبر’ و’الأطول’ و’الأضخم’.
هؤلاء هم الوجه الأخر لمدينة الأحلام…فالحلم ليس متاحاً للجميع، للفقراء كوابيسهم وليالٍ بيضاء لا نوم ولا أحلام فيها.
في النهاية …. الإقامة في دبي تشبه كثيراً الإجازات لمن يمتلك المال، وصالات الانتظار في المطارات لمن ينتظر انتهاء عقد العمل والعودة لوطنه. ولكن في كلتا الحالتين هناك شعور قوي بعدم الاستقرار، فحتى عندما تكون في عطلة جميلة تعرف في النهاية أنه لا بد أن تنتهي لتعود إلى روتين الأيام وتسلسلها الطبيعي…
يشعر الانسان المقيم في دبي، أنه يحتاج بعد فترة من استنشاق الهواء المعلب إلى هواء طبيعي، وحتى لو كان مليئاً بالغبار المنزلي وغبار الطلع وغبار الماضي…فيحزم حقائبه ويتجه جهة الغرب حيث تغيب الشمس لتشرق في قلبه من جديد.

غربة الغرب:
‘مرحبا بك’ هي العبارة التي تستقبلك وأنت تحط الرحال في مملكة الأرغان والزعفران، عبارة تكفي لتحلي مرارة غربتك منذ اللحظة الأولى التي تطأ فيها قدماك أرض المغرب. وبعدها ستعتاد على طعم السكر الذي يحلي كل شيء ابتداءً بالشاي مروراً باللحم وانتهاءً بالبرتقال، عسل ومعسل تلك هي الوصفة المغربية للمطبخ، وللروح لتتحلى.
في المغرب تغيب الشمس ولكن لتشرق أشد توهجاً من جديد، هي بلاد الشمس الدائمة الحضور في سمرة الوجوه ودفء القلوب، تلامسك أشعتها دون أن تخدش إهابك أو تعكر مزاجك. فكنز هذه البلاد في اعتدال طقسها واعتدال مزاج سكانها.
هنا يتسلل الماضي بهدوء ملوناً بالحناء، وحاملاً معه قفاطين الجدات التي ترتديها الصبايا في المناسبات ولا تعرض في المتاحف ودور التراث. ففي المغرب التراث لا نقرأه في الكتب ولا نراه في استعراضات فولكلورية للسياح، بل هو يتنفس حياً في كل تفاصيل الحياة اليومية من لباس وطعام وثقافة.
على سبيل المثال ‘الكسكسي’ ليس مجرد طبق مغربي شهي بل هو لقاء الأسرة الأسبوعي في يوم الجمعة وتحلقهم حول مائدة الطعام والكلام.
وزيارة الحمام المغربي ليست مجرد غسيل للجسد بل هي غسيل للروح، وكل مرة يقشر فيها الصابون البلدي الطبقات الميتة عن الجلد تتقشر معه كل الآثام والشرور عن الروح، ويولد بعدها الانسان من جديد. معظم النساء يذهبن أسبوعياً للحمام، فهو لقاء بالنفس وتطهير لها وهو أيضاً فسحة لهن ليلتقين ويثرثرن في عالم حريم، يرمين عنهن الملابس والتوتر النفسي ويتركن أجسداهن يتعطرن بالزيوت ويلتففن بالغسول ويتلون بالحناء. نساء من كل الأعمار والأشكال يتعرين بلا خجل في تصالح جميل مع الجسد وتعرجاته وامتلائه.
والشاي المغربي ‘التاي’ لا يحلو شربه إلا إذا تراقصت رغوته في كؤوس مزخرفة وتزين بالنعناع الأخضر.
والصالون المغربي بأرائكه الطويلة وبزخارف جدرانه ليس مجرد ديكور ثانوي، بل هو قلب البيت، ويكاد لا يخلو بيت مغربي منه، فعلى أرائكه يستلقي أهل البيت للقيلولة وينام الضيوف الذين يحلون دوماً على الرحب والسعة في تقاليد الضيافة المغربية الأصيلة.
أنا هنا في أقصى العالم العربي، بعيدة عن شرقي وقريبة جداً من أوروبا والعالم الغربي، أسمع الفرنسية واللهجة المغاربية ‘الدارجة’ وأغربل الكلمات الأمازيغية والأجنبية ليكتمل المعنى وأقترب من لغتي الأم، وعندما أفقد مخارج الحروف ومعانيها، يتناهى لسمعي صوت الآذان الصباحي أو صوت أم كلثوم المسائي، فيذوب الحنين وتتوحد القلوب على ‘الله أكبر’ و’الله يا ست’.
لغتي العربية هي حبل السرة الأخير الذي يربطني بوطني، وهي وطني البديل في الغربة، ولكنني أتعلم مع الوقت أن للكلمات معان تختلف حسب الأمكنة والبلاد، وأتعلم مثلاً أن لا أشكر أحد بالمغرب العربي وأدعو له ‘بالعافية’ لأنها تعني ‘النار’ لا ‘الصحة’ كما في شرقنا العربي. وأتعلم أن لا أنادي سيدة كبيرة بالسن ‘شيخة’ من باب التبجيل، لأنها تعني في المغرب ‘امرأة سيئة السيرة والسلوك’…هكذا ببساطة تتغير اللغة و يتغير معناها بين شرق وغرب، وتصبح حتى للكلمات غربتها في الغربة.
أحياناً كثيرة أحار ما الذي يعجبني هنا أكثر… أهو البحر الذي وقف أجدادنا أمامه وعدوهم وراءهم، أم هي الصحراء المفتوحة على افريقيا السوداء، أم هي تلك الجبال الخضراء التي تشرب مياه الأمطار ولا ترتوي. وأجدني أمام بلد أشبه ما يكون بقارة كاملة بتنوع تضاريسه وغناها، ولكنني مع ذلك أجد نفسي أميل للبشر هنا لا للتضاريس، فلم أجد من قبل شعباً يستقبلني بكل هذه الحفاوة والحب عندما أقول إنني سورية.
‘شو بيجمع الشامي والمغربي؟’ يقول المثل شعبي متهكماً وأجيب: كثير وبالزاف حب يجمعهم ،ولكن رغم هذا الحب غربتي الأخيرة قاسية وبلا نهاية منظورة، فبلادي التي تركتها بمحض ارادتي يوماً، لا أملك أن أعود لها اليوم ولا هي عادت كما كانت.
ثلاث سنوات وأنا أنتظر كغيري من المبعدين السوريين أن يسقط الطغيان، وتعود سورية أجمل مما كانت وأكثر حرية وانعتاقا.
انتظار طويل بلا نهاية، يسيل من فمي كخط دم طويل، في كل مرة يسألونني فيها عن وطني وتخونني اللغة والكلمات.

‘ كاتبة سورية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Anuar:

    مقالٌ جميلٌ ومؤثر .رحم الله أباك وغفر له هو وجميع البعثيين الذين أسلموا سورية إلى شذاذ الآفاق (حكام سورية اليوم ).إن لسان حالنا يقول :أنتم تأكلون الحصرم وأولادكم يضرسون.فلقد فرط الأسلاف بالمسؤولية الملقاة على عاتقهم وانخدعوا بمقولة :التقدمية والقومية بينما كان هؤلاء الباطنيون يخططون للاستيلاء على هذا الوطن الغالي الذي إسمه :سورية

  2. يقول حسني:

    الأدب من دون هندسة كالطبخ من دون ملح. تسلم يداك على هذه المقالة.

  3. يقول سلمى:

    اقسى الشعور أن تكون غريبا في موطنك و غريبا حين تبعد عنه.

  4. يقول ثائر:

    لغة جميلة وقدرة فائقه في العزف الجميل بالحروف.
    ولكن لك الحق في اختيار غربتك, الاجئ السوري الحقيقي ليس له هذا الخيار,

  5. يقول محمد من تونس:

    أعاد الله السلم والأمان إلى سوريا، بما يرضاه كل أبنائها! تسلم “أمك”، سيدتي !

  6. يقول وليد جبرين فلسطين:

    ايتها الآية السورية ، حروف كلماتك لينة مثل لهجة احبابنا الشاميين . كلماتك عذبة عند سماعها او قراءتها تعذبنا مع كل شهيد او جريح او معذب على ارض الشام . شكرا لك على هذا الابداع الكلامي وكما كان والدك رحمه الله رئيسا لسورية العرب ، فانت كذلك رئيسة الكلمات وعازفة في عالم الافكار والكتابات ,

  7. يقول wahib machos:

    Vielen Dank für deine liebe Gedanken,ich habe selber in DDR gelebt, jetzt lebe ich in Wien .Deine Wörter sind unbeschreiblich gut .Liebe Frl. Atasi wir leben siet ewig hier.haben wir noch Hoffnung dass zu Hause begraben werden
    viele liebe Grüsse
    von
    Wahib

  8. يقول wahib machos:

    P.S:
    wahib
    2Fehler habe ich(seit u.begraben zu werden)
    alles Liebe

إشترك في قائمتنا البريدية