بدأت إسرائيل مراجعة أهداف وقواعد إدارة عدوانها على غزة، بما لا يتناقض شكليا مع مطلب واشنطن المعلن بتقليل الضحايا المدنيين، وتركيز الحرب على أهداف مباشرة للمقاومة (حماس والجهاد)، وإعادة جزء من القوات إلى داخل إسرائيل. عملية المراجعة هذه تتم بتنسيق عن قرب مع البيت الأبيض ووزارة الخارجية والبنتاغون، بما يسمح للولايات المتحدة أيضا بسحب جزء من قوتها في الشرق الأوسط، وهو ما تحقق بقرار سحب حاملة الطائرات جيرالد فورد، أكبر وأقوى حاملة طائرات في العالم. ويبدو أن الاتصالات التي جرت في الأسابيع القليلة الماضية قد أسفرت فعلا عن تعديل أهداف الحرب، وتعديل قواعد إدارتها؛ فتم تعديل هدف تدمير حماس إلى تدمير غزة وترحيل سكانها واغتيال قيادات حماس والجهاد الإسلامي. وتم تعديل أسلوب استعادة المحتجزين من استخدام القوة والضغط العسكري الأقصى إلى استخدام المفاوضات، ومبادلة الأسرى بالمحتجزين.
كما تم في الوقت نفسه دمج المرحلة الثالثة من الحرب بالمرحلة الأولى من خطة إعادة ترتيب الأوضاع في غزة بعدها، عن طريق تهجير الفلسطينيين قسرا من الشمال إلى الجنوب، وحشرهم في جيوب ضيقة في المنطقة المحصورة بين خان يونس ورفح، وتقطيع أوصال قطاع غزة إداريا، كما حدث في الضفة الغربية. كما بدأت إسرائيل إعداد خطة لعودة سكان القرى والمستوطنات القريبة من شمال قطاع غزة، لإعطاء إشارات بأن الحرب دخلت مرحلتها النهائية. لكن حكومة تل أبيب تشهد خلافات بين اليمين الديني الصهيوني المتطرف، الذي يروج للبقاء والاستيطان في غزة، ورغبة نتنياهو في احتواء الخلافات مع الولايات المتحدة في هذا الشأن، وضمان استمرار الإمدادات العسكرية والمساعدات الاقتصادية.
إسرائيل لن تستطيع خوض حرب طويلة الأمد وحدها من دون مساعدة أمريكا، بعد أن اعتادت في حروب سابقة على مواجهات مع جيوش عربية يسقط الواحد منها في 6 ساعات، أو في 6 أيام لا أكثر
ومن الملاحظ أن عملية المراجعة تتم تحت ضغط عنصر الوقت، بسبب الانتخابات الأمريكية، وزيادة حدة التشققات داخل الائتلاف الإسرائيلي الحاكم، وغياب استراتيجية للخروج من الحرب exit strategy منذ البداية. وعلى ضوء عناصر استراتيجية الخروج من الحرب التي تتبلور يوما بعد يوم، تسعى إسرائيل إلى خلق مناخ يمهد الطريق لإعلان تخفيف العمليات القتالية من طرف واحد، لكن ذلك سيكون مشروطا بثلاثة شروط أساسية، الأول هو استمرار حالة الحرب، والثاني هو جعل غزة منزوعة السلاح تماما، والثالث هو خلق حقائق
جديدة على الأرض، تضمن بقاء غزة في قبضة إسرائيل، بما يتطابق مع قول نتنياهو يوم الأحد الماضي، إنه لن تكون في غزة قوة غير إسرائيل فقط. وفي هذا السياق تخطط إسرائيل لإنهاء مهمة وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين، ووضع أنشطة المساعدات الإنسانية تحت سيطرتها. المثير للدهشة في كل ذلك هو أن نتائج عملية مراجعة الحرب، وإجراءات بناء حقائق جديدة على الأرض، تتجاهل السبب الأساسي وراء مراجعة الأداء الإسرائيلي – الأمريكي في حرب غزة، ألا وهو الصمود الفلسطيني، ولذلك فإنها ترسم واقعا لليوم التالي للحرب، بتكريس الاحتلال وليس إزالته، ومصادرة الحقوق السياسية للفلسطينيين، وليس تأكيدها. ولذلك فإن من الطبيعي أن تصطدم نتائج مراجعة الحرب مع صمود الشعب الفلسطيني. ومن ثم فإن استنتاجات مراجعة الحرب ستلقى المصير نفسه، الذي لقيته الحرب. وعندما نتحدث عن الصمود الفلسطيني فإننا لا نقصد مجرد الدلالة المعنوية للصمود، وإنما نقصد أيضا متغيرين ماديين يتجلى كل منهما يوميا في مظاهر متعددة. المتغير الأول هو قدرة الشعب الفلسطيني على التحمل والبقاء، وإعادة إنتاج نفسه، رغم أنه يعيش في ظروف تحرم أي شعب من مقومات الاستمرار في الحياة. المتغير الثاني هو قدرة المقاومة الوطنية الفلسطينية المسلحة على مواصلة القتال بجرأة ونجاح، وإلحاق الخسائر بقوات الاحتلال الإسرائيلي بمعدلات متزايدة يوما بعد يوم، رغم قلة العتاد وتواطؤ البعض ضدها جهرا وسرا. هذا الصمود الفلسطيني هو سر فشل الحرب الإسرائيلية حتى الآن في تحقيق أهدافها المعلنة. ونستطيع أن نقرر أن إسرائيل لن تستطيع خوض حرب طويلة الأمد وحدها من دون مساعدة الولايات المتحدة، بعد أن اعتادت في حروب سابقة على مواجهات مع جيوش عربية يسقط الواحد منها في 6 ساعات، أو في 6 أيام لا أكثر.
مراجعة الأداء في الحرب
الحوار بين الولايات المتحدة وإسرائيل بشأن مراجعة الأداء في حرب غزة يهدف إلى ترتيب صيغة أمريكية – إسرائيلية تمهد لوضع شروط إعلان إنهاء العمليات العسكرية في غزة، وضمان تفوق إسرائيل العسكري الساحق على كل جيرانها القريبين منها والأبعد. كما يهدف أيضا إلى حل التناقض بين فكرة نتنياهو بأن المزيد من الضغط العسكري هو الطريق لاستعادة المحتجزين، ومطالب الأهالي وقطاعات كبيرة من الرأي العام بضرورة إفساح المجال لمواصلة المفاوضات عبر قنوات مختلفة. وقد أبدت إسرائيل اهتماما ملحوظا بمحاولة جر الروس والصينيين إلى المفاوضات، حيث طلب نتنياهو من كل من الرئيس الروسي بوتين، والرئيس الصيني شي جينبينغ التدخل لإطلاق سراح بعض المحتجزين، وهو تحرك يلبي مصلحة إسرائيلية في احتواء كل من القوتين العالميتين المناوئتين للولايات المتحدة في الشرق الأوسط. وتهدف إسرائيل من المراجعة أيضا إلى تجاوز «لاءات طوكيو» بشأن مستقبل غزة، وضمان عدم اعتراض الولايات المتحدة على تقطيع أوصال قطاع غزة جغرافيا وجيوسياسيا، بحيث يتحول في نهاية الأمر إلى منطقة أمنية عازلة، عن طريق ثلاثة إجراءات، الأول هو محاولة ضم شمال غزة، وإقامة منطقة آمنة خالية من السكان ومحظور الحركة فيها. الثاني هو إقامة منطقة أمنية عازلة بطول شرق قطاع غزة تكون خالية تماما من السكان ومحظور الحركة فيها. الثالث هو سيطرة إسرائيل على محور فيلادلفيا (صلاح الدين) الممتد من كرم أبو سالم إلى البحر المتوسط جنوب قطاع غزة، وتدمير الأنفاق كافة، الموجودة أو المحتملة تحت المحور. هذه الإجراءات تعني جغرافيا تقليص المساحة المأهولة والقابلة لاستيعاب المواطنين والمرافق اللازمة لهم، بنسبة لا تقل عن 10 إلى 20 في المئة من المساحة الحالية لقطاع غزة، مع احتمال زيادة المساحات المقتطعة في الشمال والشرق والجنوب تحت مبررات أمنية وقتية أو طويلة الأمد، وهو ما يمثل واقعا طاردا للفلسطينيين. كذلك تتجه إسرائيل إلى رفض فكرة وجود قوات دولية في غزة بعد الحرب، وإنهاء دور وكالة غوث اللاجئين «أونروا». ومن الناحية التفاوضية التكتيكية البحتة تتبنى إسرائيل استخدام فكرة تطبيق «إجراءات انتقالية»، حيثما توجد خلافات يصعب حلها في الحوار، بحيث يتم تطبيق الإجراءات التي تفضلها أولا على أنها إجراءات انتقالية مؤقتة، يتم اختبار صلاحية العمل بها، والقبول نظريا بتعديلها في حال الفشل.
الحقائق التي تصنع واقعا جديدا
يعتبر مئير بن شبات رئيس هيئة الأمن القومي السابق، الذي أمضى حوالي 30 عاما في جهاز الأمن الداخلي «الشاباك» من الأصوات المهمة التي يجب أن نستمع إليها من أجل فهم حقيقة سلوك وتوجهات الحكومة الإسرائيلية الحالية. بن شبات ينظر لزيارة أنطوني بلينكن المقبلة إلى إسرائيل على أنها فرصة كبيرة لمناقشة إقامة حقائق جديدة على الأرض في غزة، بدلا من مجرد الاكتفاء ببحث من سيحكمها بعد الحرب، ويرى أن يتناول الحوار تفاصيل ما يجب أن يكون على الأرض فعلا. بمعنى أن تكتسى المطالب الإسرائيلية لحما وشحما. وقد برر بن شبات عدم مناقشة هذه التفاصيل مع الجانب الأمريكي بخمسة أسباب، أولها تركيز الانتباه على الأعمال القتالية الدائرة بالفعل، وثانيها عدم خلق الانطباع بأن الحكومة في عجلة من أمرها وأنها تمهد لإنهاء الحرب، وثالثها تجنب طرح موضوعات من شأنها تقسيم الرأي العام، ورابعها محاولة تأجيل وتخفيف حدة الخلاف مع واشنطن حول هذه الموضوعات، وخامسها أن طرح تفاصيل «اليوم التالي» يجب أن يأخذ في الاعتبار ما يتم إحرازه من نتائج في الحرب نفسها والأوراق التي بحوزة كل طرف. ويعتبر بن شبات أن مفتاح رؤية استراتيجية الوضع الجديد في غزة يتمثل في نقطتين، الأولى هي إعادة تثبيت نظام الردع الإسرائيلي، والثانية هي أن تكون غزة «منزوعة السلاح». ويقترح أن يركز المنطق الإسرائيلي في الحوار على إقناع الإدارة الأمريكية بأن وجود الأنفاق يتعارض مع مبدأ «غزة منزوعة السلاح»، وأن استمرار وجود الأنفاق يعني بالضرورة استمرار حالة الحرب لأجل غير مسمى وحرمان المناطق التي توجد فيها أنفاق من أي معونات إنسانية، وهو ما يعني عمليا تهجير سكانها لأجل غير مسمى.
هذه الرؤية الإسرائيلية تنتظر ردا فلسطينيا وعربيا ودوليا، يجعل ملامح اليوم التالي للحرب في غزة، هي انسحاب القوات الإسرائيلية وإنهاء الاحتلال تماما، وعودة كل نازح فلسطيني إلى بيته، وإنهاء الحصار، والبدء في إعادة البناء، وإرساء الدعائم لدولة فلسطينية مستقلة، يعيش فيها الفلسطيني حرا آمنا.
كاتب مصري