شرعية نضال الشعوب من أجل الاستقلال وسلامة أراضيها والوحدة الوطنية والتحرر من السيطرة الاستعمارية والاحتلال الأجنبي بكل الوسائل المتاحة، بما في ذلك الكفاح المسلح، لا جدال فيها بموجب المواثيق الدولية. مع ذلك فقدوا التناسب مع أنوارهم ومواثيقهم الدولية، وما يسمونها حقوق إنسان وعدالة. ادعاءات السلام الكاذبة التي يرددونها لم تترجم يوما على أرض الواقع، قتل الآلاف من سكان غزة وتشريدهم وتجويعهم يطرح السؤال: أي صنف من السلام يتحدثون عنه؟ كل الشعوب الحرة أصبحت قادرة على فحص سياسة الحكومة الإسرائيلية التأسيسية المدعومة من الولايات المتحدة باستخدام استراتيجيات «الإرهاب والطرد» في محاولة لتوسيع الأراضي عن طريق القتل وتهجير الفلسطينيين. ما هذه الحضارة التي وصلت إلى ما وصلت إليه من استخفاف بأرواح البشر؟ هل بقي شيء اسمه القانون الدولي؟
فلسطين امتحنت الحضارة الإنسانية، وطبيعة التعاقدات الدولية وقلة نجاعة هياكل ما بعد الحرب العالمية، حيث يسمح هذا الوضع العالمي لكيانات استعمارية أن تعربد وتفعل ما تشاء وترتكب الجرائم، دون محاسبة أو مساءلة قانونية. مصطلح «أرض إسرائيل» انتقل من جوهره الديني، ليصبح كذلك مصطلحا جيوسياسيا ليس مرتبطا بمصالح أمريكا في الشرق الأوسط فقط.
وازدواجية المعايير وحقوق الشعوب في وطن مستقل، باتت وجهة نظر قابلة للتأويل لدى الإدارات الأمريكية المتعاقبة، التي عطّلت بلا اكتراث مواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان
وبعد أن غرق نتنياهو في الوحل، أصبحت حسابات السياسة والبقاء في الحكم هي ما يبرر جنون الحرب الهمجية المتواصلة. فعلا المحتل الإسرائيلي هو المحتل الوحيد الذي يعتبر نفسه كمن يقع تحت الاحتلال. لا يستطيع أن يعترف بأنه محتل، ولا يستطيع أن يقرر إنهاء احتلاله. هذا المحتل الصهيوني يحتاج إلى ممارسة العنف ليتحرر من نفسه ومن ذاته الطفيلية الهامشية والعنصرية. الفلسطينيون يقاومون بمفردهم فاشية الاحتلال الصهيوني، المدعوم من دول غربية. وليس استخدام أمريكا لحق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن ضد قرار إيقاف الحرب على غزة أكثر من مرة سوى دليل على دموية الصهيونية الإسرائيلية الأمريكية التي بلغت حدا لا يطاق. يمضون في هذا العداء كلما تنامت حركات اليمين المتطرف لديهم، أو كانت هناك انتخابات تستدعي استغلال هذه الشعارات لأهداف سياسية. بايدن يخسر أصواتا انتخابية كثيرة، مع ذلك لا يستطيع إيقاف نوازع نتنياهو الإجرامية، بل يشارك فيها. «امبراطورية الكذب» تواصل تطلعها المستمر إلى ممارسة الوصاية على الدول. لا دور للأمم المتحدة في قضايا الشرق الأوسط، وفي مقدّمتها فلسطين المحتلّة، وازدواجية المعايير وحقوق الشعوب في وطن مستقل، باتت وجهة نظر قابلة للتأويل لدى الإدارات الأمريكية المتعاقبة، التي انتقدت انتهاك حقوق الإنسان في بعض دول العالم الثالث، متناسية أنّها عطّلت بلا اكتراث مواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ومنعت الشعب الفلسطيني من حقوقه المشروعة دوليا وإنسانيا. ما تمارسه واشنطن من عنف وقهر لشعوب الشرق الأوسط، لا ينفصل عن مركّب الهيمنة العام الذي تمارسه على العالم. الاستراتيجية الصهيونية الأمريكية في الشرق الأوسط واضحة منذ أن جاء كولن باول محاولا فرض إملاءاته بعد غزو العراق. وفي علاقة بالقضية الفلسطينية، فجوهر هذه الاستراتيجية هو دعم إسرائيل التام في قمعها لأي انتفاضة أو حراك نضالي يقوم به أصحاب الأرض، وتبرير جرائمها والتغطية السياسية والدبلوماسية عليها، وتقديم الدعم المالي والعسكري المطلق لها. ليس جديدا أنّ الرؤساء الأمريكيين يسارعون لتقديم فروض الطاعة والولاء للّوبي اليهودي، ويدخلون عضوية هذا النادي لنيل الرضى. ولا يخطر ببال أحدهم معاندة طموحات اليهود والتجمّع الصهيوني العالمي، أو معارضة تطلّعاتهم. ولا يخفى ما تحصده إسرائيل عبر تحالفها المبكر مع القادة الأصوليين الإنجيليين، الذين يمثّلون قوّة سياسية ضخمة في الداخل الأمريكي، وذاك التّماهي بين اليمين اليهودي المتطرّف واليمين المسيحي الجديد.
الكيان الصهيونيّ يتمكن من ممارسة أفعاله بوحشيّة قصوى، بفضل الدعم الأمريكي القوي ومشاركته في الحرب على شعب يُقصف بأكثر إنتاجات التكنولوجيا العسكرية الأمريكية تطوّرا. وهذه التكنولوجيا تُستخدم على نحو ينتهك القانون الدولي، والقانون الأمريكي أيضا. تزويد إدارة بايدن لإسرائيل بالمعدات العسكرية متسق مع تاريخ طويل من المساعدات الأمريكية لها، أغلبها لضمان تفوُّقها العسكري واستدامة أمنها ونفوذها في منطقة الشرق الأوسط، همّهم الأصوات الانتخابية، والشراكات الاقتصادية، وقعوا تحت ضغط النفوذ الدولي للوبي اليهودي، على المستوى السياسي والاقتصادي والإعلامي، حيث تنامى تأثيره على صناعة القرار، هذه أحد الأسباب الرئيسية التي تقف وراء الدعم السياسي والعسكري الغربي لإسرائيل، لكنها لا تبرر أبدا الجرائم ضد الإنسانية والسقوط الأخلاقي والإنساني للغرب الذي يدعي التنوير والتحضر والديمقراطية. لقد قالها صراحة، زعيم الحزب من أجل الحرية الهولندي في خطابه أمام جمعية الحرية الأمريكية عام 2013: «ما نحتاجه اليوم هو صهيونية لشعوب أوروبا. على الأوروبيين أن يحذوا حذو الشعب اليهودي، وأن يعيدوا تأسيس دولتهم القومية.. إسرائيل تستحق دعمنا. ليس فقط لأنها تمثل خط المواجهة ضد التهديد الشمولي للإسلام، ولكن أيضا لأنها توضح مدى أهمية أن يكون للشعب وطنه». ماذا يعني أن يقبل العالم انتهاكات إسرائيل الرهيبة لحقوق الإنسان والقتل والمجازر التي ترتكبها. قطاع غزة تعرض لهجوم لا هوادة فيه من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي، التي يبدو أنها عازمة على التدمير بقدر ما تستطيع، وعلى تهجير سكان القطاع، بضرب المدارس والمستشفيات. تتصاعد معارضة جرائم إسرائيل، الآلاف يتظاهرون في ولايات أمريكا وغيرها من الدول الأوروبية، لكنها لم تصل إلى النقطة التي تؤثر على سياسات هؤلاء وخضوعهم للصهيونية العالمية. سقوط في الضمائر وخذلان للمبادئ لا مثيل له، بالنسبة للمقاومة في قطاع غزة التي تخلّى عنها العالم، وهناك من ينتظر أن يتم التخلص منها وللأسف من العرب أنفسهم ومن الداخل الفلسطيني أيضا، هذه المقاومة الباسلة وإن كانت قد حققت تقدما استراتيجيا وبطولات في المعارك، إلا أنها تبقى بعيدة عن التأثير في واقع العملية الميدانية، نظرا للاختلال الكبير في موازين القوى. فهي تقاوم جيشا يتم تزويده بأحدث الأسلحة الأمريكية منذ بداية الحرب. الخاسرون في هذه الحرب هم العزّل الفلسطينيون، الذين تتم ابادتهم بشكل علني أمام أنظار العالم، شجاعتهم ومقاومتهم عظيمة، لكن دون دعم دولي كبير، لا يمكن أن ينافسوا العدوان الإسرائيلي المتواصل، الذي لا ينصت لأي دعوات، وإن كانت صادرة عن محكمة العدل الدولية. هناك معارضة لجرائم إسرائيل بالتأكيد، لكنها تواصل تفعيل القوة الهمجية لديها. يبدو أنّ مورثات العدوان الصليبيّ المنحرف، والمدعومة بالعلم والتقنية وأقوى النظم الاقتصادية والعسكرية، قد مزقت الغرب ومن ورائه العالم إلى أجزاء. وحين يعاد توحيد مورثات التعصب المفرق مع الأصولية الدينية، فإنّ هذه المورثات تبقى تهديدا قويا للغرب، لا من الخارج فقط، بل من الداخل الذي يعتبر أكثر تهديدا. في النهاية، الحضارات تختفي حين يُدمِّرها أصحابها.
ماذا يتبقى من حضارة إنسانية عندما يُغيّب القانون الدولي، ويتم العبث به بمثل هذه الصورة. أصبح من المُخجل للهيئات الأمميّة أن تُحدّثنا عن حقوق الإنسان، عدا أنها لا تنسى أن تعبر عن قلقها مثلما جرت العادة. عجز تام عن محاسبة دعاة الغزو والاحتلال والتنكيل بالشعوب، ومن يرتكبون أبشع المجازر. عارهم يمشي عاريا أمام أطفال فلسطين، أطفال الحجارة والمقاومة والكرامة الذين سينتصرون جيلا بعد جيل.
كاتب تونسي