تتسارع الأحداث الجارية داخل غزة منذ اندلاع عملية طوفان الأقصى، ومعها تتسع أمداء الدعم العالمي للقضية الفلسطينية وعلى مختلف الصعد، ومنها الصعيد السياسي سواء على مستوى الشعوب التي خرجت بالآلاف تندد بالإجرام الوحشي وتناصر حق الشعب الفلسطيني في استعادة حقوقه المستلبة أو على مستوى الحكومات الحرة التي أعلنت قطع علاقاتها الدبلوماسية مع الكيان الصهيوني أو هددت بوقف دعمها وتأييدها له.
أما التطورات على الصعيد الاقتصادي فتتضح في ما أخذ الكيان الصهيوني يتصف به من عجز عن أداء دوره كحارس للمصالح الاستعمارية في المنطقة. هذا الدور الذي كان قد عُهد إليه منذ تأسيسه. واليوم تخسر الإمبريالية العالمية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية كثيرا من مصالحها في المنطقة وتلحقها أضرار فادحة بسبب التوترات الخطيرة الدائرة في هذا الموقع الاستراتيجي الذي تمثله فلسطين والكائن في قلب التجارة والملاحة العالميتين. ولم يبق في حوزتها غير أن تكشر عن أنيابها منافحة عن خفيرها الهجين لا حبا فيه وإنما خشية على ما سينفرط من قبضتها وما سيضيع من بين يديها من مكاسب إن هي تهاونت في دعمه وتقوية شوكته.
ولا شك في أن هذا التسارع في الأحداث داخل منطقة الشرق الأوسط كاف لتأكيد أن الحرب على غزة هي هزة كبيرة وهوة عميقة تقصم ظهر الإمبريالية الأمريكية وتكشف مدى تداعي سياساتها الخارجية والداخلية. وكثيرة هي الدلائل على ما أصاب السياسة الخارجية من إخفاقات في ما رسمته من مخططات لمستقبل فلسطين. فمنذ اليوم الأول من اندلاع شرارة طوفان الأقصى، بانت الدلائل جلية، وليس آخرها ما أخذت تشنه من غارات على دول مجاورة لفلسطين لها سيادتها مستهدفة قيادات الفصائل الثورية ومواقع تمركزها. وبغيتها سحب أنظار العالم والتغطية على حقيقة ما مني به الكيان الصهيوني من هزيمة وانهيار في غزة التي تباد بأبشع وسائل هذا العصر قسوة ودموية وبلطجية.
أما على صعيد سياساتها الداخلية، فالدلائل كثيرة أيضا، تؤكدها التطورات الأخيرة داخل الولايات الأمريكية وما يجري فيها من استمرار التظاهرات والاحتجاجات العارمة التي تتخذ في كل يوم وتيرة أكثر حدة وأوسع مدى حتى أنها ما عادت تقتصر على المنظمات المدنية المدافعة عن حقوق الإنسان وحركات السلام ودعاة نبذ التطرف والعنصرية، بل توسعت لتصل إلى طلاب وأساتذة الجامعات الأمريكية مثل نيويورك وهارفارد وكولومبيا وييل ومعهد ماساتشوستس وجامعة بنسلفانيا وجامعة براون وجامعة تكساس وجامعة جنوب كاليفورنيا وغيرها التي فيها تزايدت الاحتجاجات الطلابية الداعية إلى وقف الإجرام الدموي في حق الفلسطينيين العزل من الأطفال والنساء والشيوخ. فكان أن أضرب الطلاب والأساتذة عن الدوام واعتصموا في الخيام، رافضين سياسة الإرهاب التي تمارسها الولايات المتحدة ومطالبين بوقف تسليحها الكيان الصهيوني وسحب استثماراتها من شركات تصنيع السلاح.
وبشكل غير مسبوق وخلال أيام معدودات تصاعدت هذه الاحتجاجات الجامعية لدرجة أرعبت أصحاب القرار من رؤساء وعمداء وحكام، فقام بعضهم بتعليق الدراسة أو تحويلها إلى إلكترونية، وقام بعضهم الآخر باستدعاء قوات الأمن والحرس والشرطة من أجل تفريق المتظاهرين وإغلاق الساحات واعتقال من يجدونه متظاهرا داخل الحرم الجامعي. وهذا ما حوّل مسار الاحتجاجات من أن تكون سلمية إلى أن تكون تصادمية.
ولقد خلّف اعتقال المتظاهرين من الطلاب والأساتذة موجات عارمة من الغضب حتى وصفت بأنها الأكبر منذ حرب فيتنام، واشتدت ضراوتها واتسعت رقعتها وتصاعدت وتيرتها مع اعتقال المئات ومحاكمتهم. وهذا كله كشف زيف ما تدعيه الولايات المتحدة من حرية وعدالة وديمقراطية وأكد مقدار كراهيتها للشعوب الحرة. أما ما ينتظره المعتقلون من محاكمات وعقوبات ستوجهها إليهم السلطات الأمريكية فإنه سيهز الشارع الأمريكي وسيزيل مساحيق ديمقراطيتها الزائفة.
وبسبب ذلك جرى انضمام الكثيرين من الطلاب والأكاديميين والمواطنين من خارج هذه الجامعات، ومن بينهم يهود رفضوا الإبادة في غزة وانتفضوا لأجل الحق ووصل الأمر إلى تشكيل اتحادات طلابية وأولها (اتحاد وطنيون من أجل العدالة في فلسطين) في جامعة هارفارد.
ولقد شنت السلطات في جامعة نيويورك وحدها حملات إرهابية داخل الحرم الجامعي فاعتقلت جمعا غفيرا من المتظاهرين، ومن بينهم الاستاذ الجامعي والروائي العراقي سنان انطون الذي أفرج عنه لاحقا ولكن تنتظره محاكمة قد تقضي بوقفه عن العمل وربما طرده.
إن موقف سنان انطون هو مثال إنساني ناصع للمثقف الذي يضع فلسطين على راحتيه قولا وفعلا فلا يمالئ على حسابها. إنه صورة مشرِّفة للأديب العراقي والعربي المغترب الذي يبحث عن الحقيقة ولو أضرت بمصلحته الشخصية. وهذا هو ما يمجد الأديب وليس كما يظن بعضهم من أن المجد هو بإقامة العلاقات وتمتينها مع المتنفذين وتملق المهيمنين على رأس المؤسسات المعنية بالأدب والثقافة.
إن موقف سنان انطون تشاكله مواقف عشرات الأدباء العراقيين المغتربين الذين وجهوا أقلامهم ووعيهم لنصرة فلسطين غير آبهين أن يُتهموا بمعاداة السامية والإرهاب، ولا خائفين من أن تسقط عنهم الجنسية أو يفوتهم تكريم بكتاب شكر أو درع تقدير أو حظوة بجائزة وُعدوا بها أو هم يسعون إلى نيلها.
لقد أثبت سنان انطون أن الأديب العربي المغترب قدوة ومثال، وأنه امتداد أصيل لأولئك المناضلين الشرفاء الذين ذاقوا مرارة المنافي والشتات وتجرعوا غصص اللجوء وما تنازلوا عن مبادئهم ولا توانوا عن النضال والتضحية من أجل الحق والدفاع عن أراضينا المغتصبة في فلسطين، رافضين كل أشكال المساومة.
لم يقبل سنان انطون أن يظل متفرجا مكتوف الأيدي، ولم ينتظر حتى يرى الاحتجاجات على قدم وساق تناصر غزة، بل انتفض مع أول شرارة اندلعت من طوفان الأقصى، وسخَّر قلمه لنصرة القضية الفلسطينية بما كان ينشره من مقالات باللغتين العربية والانكليزية في صحف ومواقع عربية فضلا عن صحف «نيويورك تايمز» و«الغارديان» وغيرهما، مؤديا دوره القومي والإنساني إزاء ما يجري في غزة وسائر المدن الفلسطينية من تنكيل ودمار واضطهاد، ولم يتوان في كثير من مقالاته من تكرار القول بأن (العدوان الهمجي على غزة يحرم أهل فلسطين من حقهم في الوجود) ومن مقالاته «غزة والضباع / استثمار الإبادة والتآلف مع الإبادة من اوشفتز إلى غزة / عن بوشنيل الذي أحرق جسده من أجل غزة/ غزة وحدود الأكاديمية/ غزة ومحور الشر/ غزة وتطبيق العنصرية/ والعنف والعنف المضاد/ جثامين الثائرين/ يسوع تحت أنقاض غزة/ إبادة غزة والحضارة الغربية/ إلى أطفال غزة/ التنصل من الإبادة من رواندا إلى غزة».
وطالما استهزأ انطون من تجاهل الإبادة الجماعية في غزة، وعرّى إسرائيل الغارقة في المذابح البشرية ورفض سياسة الاستيطان الاستعمارية وكشف عن تناقضات ما تدعيه أمريكا من ديمقراطية كما في مقالته «سنان الشيباني» وفيها تحدث عن مضيف قصب رافديني سافر من جنوب العراق وقطع البحار كي ينصب في جامعة رايس بولاية هيوستن، والمفارقة أن القصب ظل شهورا عدة محجوزا ينتظر التفتيش، ظنا أنه يحمل متفجرات.
تجدر الإشارة إلى أن لسنان مقالات جريئة داعمة لثوار تشرين أبان عامي 2019 و2020 كمقالتيه «ترامب والعفو عن القتلة العراقيين» و«صفاء على قيد الحياة».
كل هذا يجعل من سنان انطون نموذجا للأديب المغترب، وابنا بارا للمفكر الفلسطيني الكبير إدوارد سعيد. ومثله مئات الطلاب والأساتذة الجامعيين من الأمريكيين وغير الأمريكيين الذين فيهم تتأكد حقيقة ما تواجهه الإمبريالية الأمريكية من حقبة عصيبة ستفضي إلى انهيارها، ولقد بانت بوادر هذا الانهيار مع توسع نطاق الاحتجاجات الطلابية العارمة لتشمل جامعات العالم كلها وفي مقدمتها جامعات أستراليا وفرنسا وبريطانيا. لاشك أن كابوسا مرعبا يمثل أمام أعين الإمبريالية والصهيونية وهي تتابع اتساع احتجاجات الطلبة خشية أن تتطور وتغدو كالثورة الطلابية الفرنسية العارمة عام 1968.
إنها غزة الهزة التي زلزلت الأرض تحت أقدام الصهاينة وحلفائهم الإمبرياليين، وأيقظت الضمائر والأذهان حتى اجتاحت العدو في عقر داره.. وعلى الباغي تدور الدوائر.
*كاتبة من العراق