حتى لا نخلط بين الأمور، ونميز الصحيح من الخطأ، والمفيد من الضار، والصديق من العدو، علينا أن نفهم على ماذا تُبنى العلاقات الإنسانية.
منذ القِدم والإنسان يُحارب أخاه الإنسان، لكنه يبحث أيضاً في الوقت نفسه ، للعيش معه بسلام، بهدف الاتقاء من المخاطر المحيطة به. وهو ما دفعه إلى وضع قوانين عدة، تُحِد من حريته المطلقة، لصالح بناء علاقات أكثر سلمية وأقل عداوة.
بناء مجتمع إنساني واحد
منذ آلاف السنين، تعُم الحروب الأرض من قاصيها إلى دانيها، لكنها في النهاية، أدت إلى ما يُشبه توازناً، سمح بإيجاد مؤسسات دولية مثل الأمم المتحدة وهيئاتها المختلفة على علاتها.
نحن لا نستطيع القول، أن الإنسانية وصلت لمرحلة بناء مجتمع إنساني واحد، ذي قواعد واحدة، بل نحن بعيدون جداً عن ذلك. إنما تبقى هذه الفكرة، التي دافع عنها، الفيلسوف كانط، الأفق الذي تسير عليه البشرية، بوعي أو بغير وعي.
التقارب الثقافي
في انتظار تجمع الإنسانية جميعها، شُكِلت الإمبراطوريات، ثم الدول ذات السيادة؛ حيث تعيش مجموعة من الناس في إطار قوانين جامعة لها. ثم انتقلت إلى تقارب مجموعات الدول أو ما أسميه (التقارب الثقافي) فدول أوروبا تجمعت في الاتحاد الأوروبي. كذلك المجموعة الغربية، التي تضم كل من انتمى للثقافة الغربية (الولايات المتحدة، استراليا…الخ). وهناك محاولات لبناء مجموعات أخرى، مثل المجموعات الاقتصادية، كتجمع دول أمريكا الجنوبية، أو مجموعة البريكس، التي تضم الهند والصين وجنوب أفريقيا وروسيا، وحديثاً دول أخرى.
في هذا الاتجاه العام نحو التقارب والتعاون، تبقى الشعوب والدول العربية، الاستثناء الوحيد عن القاعدة. فبدل التضامن، نجد الخلافات، وبدل السلام، نجد الحرب، وبدل الوحدة، نجد التفرقة، وبدل التكامُل، نجد التنافس على التبعية لمجموعات أخرى.
المثال بخلاف الجزائر والمغرب الدائم، أو حرب السودان الداخلية، والوضع المُضعضع لدول الخليج، وعدم فعالية الجامعة العربية، وسيطرة إسرائيل والغرب، على مُقدرات الأمة دون جُهد.
التضامن والتكامل
تؤكد كلها هذه الحقيقة، وهو أن التضامن والتكامل والوحدة، هي الوسيلة الوحيدة للفاعلية، وهي الوسيلة الوحيدة للتقدم.
يكفي أن نأخذ حرب غزة الحالية، مُقارنة بحرب أوكرانيا، لنرى أن تضامن الدول الغربية القوي، أنقذ أوكرانيا من مخالب الروس، دعمهم لها ليست له حدود. بينما اختفاء أي دعم للشعب الفلسطيني من المجموعة العربية، أدى للمذابح التي نشهدها اليوم، دون أن يتحرك أي جندي عربي، ولا حتى هؤلاء في محور المقاومة الباسل، أو المتحاربين في شمال أفريقيا.
حرب غير متكافئة
على عكس ذلك، فالدول العربية تُطبع مع إسرائيل، وتتجاوز الشعب والقضية الفلسطينية كاملاً، ولم يجدوا حرجاً بالوقوف إلى جانب عدوه. ما يحدث حالياً في حرب غزة، رغم شجاعة الأبطال الفلسطينيين، يبقى حربا غير متكافئة.
إسرائيل التي تنتمي إلى المجموعة الغربية، حصلت على دعم هؤلاء بكل سهولة، ودون أي اعتبار أخلاقي. بينما قطاع غزة الصغير، لم يجد أي دولة عربية، أو مسلمة، لتقف حقاً لجانبه.
نحن أمام مذابح حقيقية، لم تكن لتحدث لو انتمت فلسطين حقاً، إلى أُمة متضامنة ومتعاونة.
نحن لا نتوقع مثلاً، أن تُهاجَمَ دولة أوروبية مثل البرتغال أو حتى لوكسمبورغ على صغرها ويُقتل أهلها.
العودة إلى مفهوم الأمة المتضامنة بالنسبة لنا، أصبح بعد المثل الغزاوي، ضرورة وُجودية.
فمن يستطيع أن يقف وحده، في وجه قوى الغرب المجتمعة؟
محاور جديدة
من ينتظر ميلاد محاور جديدة، مُقابل الغرب يُخطئ، فتضامن الصين مع روسيا، أو البرازيل مع الهند، وغير ذلك، هو فقط تضامن إعلامي، لا يوجد له أي حقيقة على الأرض، بل العكس، فالتنافس الهندي الصيني، أو الصيني الروسي، هو سيد العلاقات بين هذه الدول. التضامن يعني التضحية عند الضرورة، فهل هذه الدول مُستعدة، لتُضحي من أجل بعضها البعض؟
هذا ما يحدث في أوروبا والغرب، ولا نراه في أي مكان آخر.
التضامن العربي يعني العودة للربيع العربي، والدفع نحو أنظمة سياسية تُمثل الشعوب، وليس فقط سيطرة مجموعة من المُنتفعين، على خيرات الأمة دون وجه حق.
التضامن هو أن تُفتح الحدود أمام المتطوعين، لدعم الشعب في غزة، وأن يُقطع النفط عن الغرب، إن لم يُسمح بدخوله إلى مستشفيات غزة، وأن تُقاطع البضائع الغربية كاملة، إن لم يصل الغذاء والدواء إلى أطفال غزة.
هي رص الصفوف ووضع إمكانيات 400 مليون مواطن، في وجه دول الغرب المجتمعة، لدعم الظلم والعدوان.
نعيش الآن لحظات فاصلة، غزة صغيرة بمساحتها وعدد سكانها، لكنها قوية بإرادتها، وبسالة مقاتليها وصمود أهلها. لكن النصر حتى يأتي، بحاجة للتضامن العربي معها، وليس فقط للمظاهرات، في عواصم الدول الغربية.
كاتب فلسطيني