إن استخدام عبارة «الكيل بمكيالين» أو «ازدواجية المعايير» أو غيرها من العبارات التي تفيد، في نهاية المطاف، معنى التشاؤم والإحباط المزمن عند تناول السلوك الأمريكي في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، أمر مفروغ منه لن يثير الكثير من الاعتراض عالميا، وربما ذهبنا بتقدير الموقف، إلى حد وصفه بقلة الإبداع.. لكن ما يزيد الطين بلة أن تضاف إلى نبرة الإدارات الأمريكية المتماثلة، بغض النظر عن تعاقبها، مفارقة جوهرية، تكرس التنديد بقصف المدنيين، لكنها تقر في الوقت نفسه بمدّ الجهة القاصفة بالسلاح، من دون قيد ولا شرط.
وقد بدأ مصطلح جديد ومقلق في الظهور، أخذ الأطباء يتناولونه بالتحليل في وسائل الإعلام هو: «التوترات الغذائية».. مصطلح لم نكن نسمعه من قبل، أعقب مصطلحا آخر كان معروفا منذ زمان هو: «الأمن الغذائي». «يبدو أن لغة الأمريكيين تغيرت» تساءلت بنبرة غير مقنعة صحافية قناة «بي بي سي» في براغ «نيوز هاور» قبل أيام قليلة، وهي تقابل ضيفتها الناشطة الفلسطينية نور.
«كيف تفسرين هذا التراجع؟!» سأل في خطوة مماثلة صحافي إذاعة فرانس أنفو الفرنسية ضيفته الأستاذة المحاضرة إليزابيث شيبرد من جامعة تور الفرنسية.
في كلتا الحالتين، كان الرد واحدا وصارما: «تغيرت اللغة، لكن لم تتغير الألفاظ!» قالت نور.
أصبح جانب من حبل النجاة بيد الرأي العام.. سقوط القتلى والجرحى، الذي أحدث صدمة لم يسبق لها مثيل، صار بإمكانه تحريك الناخب كما لم يتحرك أبدا
«لا.. أبدا ليس هناك أي تراجع» أكدت شيبرد، مصححة بالصرامة ذاتها الصحافي الشاب الذي اعتقد أنه أجاد في تحليل الموقف الأمريكي «الجديد» حين وصفه بالـ»قطيعة».. لا قطيعة ولا تراجع. ووقف إطلاق النار من دون أن يمثل مرحلة واضحة للعودة إلى طاولة المفاوضات أيضا، سيصب في خانة الكيل بمكيالين.
لكن أكثر من أي وقت مضى، أصبح جانب من حبل النجاة بيد الرأي العام. سقوط القتلى والجرحى، الذي أحدث صدمة لم يسبق لها مثيل، صار بإمكانه تحريك الناخب كما لم يتحرك أبدا. الانتخابات الأمريكية على الأبواب، والانتخابات الإسرائيلية أيضا، وما يجري حاليا في الكواليس ليس مجرد دبلوماسية، إنه أيضا حساب سياسي. «يتحدث بلينكن عما يريده الأمريكيون وما يريده الإسرائيليون. فقط». تقول نور. هذا صحيح، لكن الصحيح أيضاً أن بايدن يسعى لإنقاذ ماء وجه الإدارة الديمقراطية أمام الناخبين.
ساءت العلاقات بين بايدن ونتنياهو إلى أقصى درجة، ما جعل بايدن يستدعي – هذه الكلمة الأنسب – وزير الدفاع الإسرائيلي في واشنطن، يوآف غالانت. «قد تكون الخطوة مجرد خطوة شكلية» سيرد البعض.. صحيح. لكن الصحيح أيضا أن ركاما من الخطوات المماثلة سيزيد من إذكاء مناخ عدم الثقة بشكل يؤثر على السياسة الأمريكية الداخلية. بايدن لا يزال يراهن على القاعدة الانتخابية الأمريكية العربية، وأيضا على الأصوات الإسرائيلية المتعقلة في نيويورك، التي لا تتجه إلى الجمهوريين، ولا إلى غلاة اليمين المتطرف حلفاء نتنياهو. الأصوات اليهودية المتعقلة المناصرة للسلام موجودة في نيويورك، ولا تزال تسمع، منها صوت إيهود باراك الذي تحدث إلى وسائل الإعلام الفرنسية مؤخرا، وهو يذكّر بأم المبادئ: طالما لم تتم العودة إلى المفاوضات من حيث انتهت، أي من اتفاقيات أوسلو، فليس هناك مبرر للتفاؤل.
لن تتضح معالم «اليوم التالي» إلا بحسم حاسم يحسب له التاريخ حسابه: إما السيناريو المعتاد، وإما سيناريو جديد. والقرار بيد الناخبين.
باحث أكاديمي وإعلامي فرنسي