لم يسبق لأي من حروب إسرائيل العدوانية أن أثارت في المجلات الفكرية الغربية تفكيرا أعمق وجدلا أجرأ مما يثيره العدوان الهمجي المستمر على شعب غزة. بل إن هذه الجرأة الجديدة في التفكير والتعبير قد شملت بعض أهم الصحف الغربية الجادة التي عادة ما تطيل التفكير والتقدير قبل أن تنشر أي جملة قد يشتمّ منها عدم التضامن الكافي مع دولة إسرائيل أو عدم التوقير اللازم للوبيات الصهيونية ذات السطوة الرادعة.
من ذلك أن الـ«نيويورك تايمز» فتحت صفحات الرأي، طيلة الأسابيع الماضية، لعدد لافت من الكتاب الفلسطينيين والعرب الذين خاطب معظمهم الأمريكان بما يفهمون، فعرضوا وقائع المظلمة الكبرى وشرحوا حيثيات الحق العربي بفطنة ولباقة وحس إنساني رفيع. كما أن لوموند تجرأت على القول في افتتاحية بعنوان «ينبغي لتدمير غزة أن يتوقف»: إن الحقيقة التي يراها الجميع هو أن فلسطينيّي غزة لا يحسب لهم أي حساب. فلا قيمة لحياتهم في أعين إسرائيل ولا في أعين حلفائها الغربيين الذين يرون أن تعريض مصير مليوني فلسطيني لغوائل التقتيل و«التشريد التراجيدي» بما يعيد للأذهان نكبة 1948، إنما هو ثمن مقبول طالما أن الغاية هي القضاء على حماس.
ومن أبرز ما لفت انتباهي، ضمن كثير من المقالات الشجاعة في المجلات الفكرية، مقال لعالم الأنثروبولوجيا ديديه فاسن يقول في توطئته إن القضاء على حماس، الذي يعدّه معظم الخبراء هدفا غير واقعي، قد تجسم فعليا في مذبحة للمدنيين الغزاويين يخيم عليها شبح الإبادة. ثم يقول رأسا في مستهل المقال: «في بداية عام 1904 انتفض أهالي الهيريرو في مستعمرة جنوب غرب إفريقيا (ناميبيا) الألمانية، فقتلوا أكثر من مائة من المستعمرين في هجوم مباغت». وبعد ذلك يقيم فاسن مقارنة بين هذا الهجوم الذي قلما يتذكره أحد وبين هجوم حماس في 7 أكتوبر.
الحقيقة التي يراها الجميع هو أن فلسطينيّي غزة لا يحسب لهم أي حساب. فلا قيمة لحياتهم في أعين إسرائيل ولا في أعين حلفائها الغربيين
وكان الألمان الذين استعمروا ناميبيا عام 1884 قد سلبوا الهيريرو أراضيهم واتخذوهم عبيدا. أما هجوم 1904 فقد ردوا عليه بأن أبادوا ثلاثة أرباع شعب الهيريرو! وقد رأى المؤرخون في جريمة الإبادة هذه تمرينا تحضيريا (بروفة) لجريمة الإبادة الكبرى التي مثلها الهولوكوست. أما فاسن فإنه يرى «تشابهات مقلقة» بين ما حدث في ناميبيا وبين ما يحدث حاليا في غزة: إذ مثلما أن المستعمرين الألمان في جنوب غرب إفريقيا اقترفوا أول جريمة إبادة في القرن العشرين، فإن الإسرائيليين آخذون في ارتكاب أول جريمة إبادة في القرن الحادي والعشرين. وقد ردت الباحثة الاجتماعية الفرنسية-الإسرائيلية إيفا اللوز على فاسن، معتبرة أن مقاله مثال على المواقف اللاّسامية التي تتخفى خلف قناع مناهضة الصهيونية، منكرة على اليهود ما تمنحه لكل شعب آخر. وتبدأ اللوز بانتقاد عبارة «التشابهات المقلقة» فتذكّر بأن العلوم الاجتماعية تأسست تحديدا حول المشكلة الإبستمولوجية المتمثلة في التشابه. حيث إن غابريال طارد استنتج أن العلم لا يستطيع تجاوز مشكلة التعقيد والعشوائية إلا بتحديد التشابهات في صلب الاختلافات. ولهذا انتقد أميل دوركهايم المؤرخين الذين لا يتمكنون من تجاوز تعددية الأحداث التي يبدو كل منها في الظاهر فريدا. ذلك أن العلوم الاجتماعية لا تكون علوما أصيلة بحق إلا إذا تمكنت من استخراج عناصر التواتر، أي التشابهات بين أحداث يكون في ظاهرها اختلاف. وتنتقد اللوز قلة عدد الحالات والظاهرات التي ينطلق منها فاسن، وتتهمه بتعمّد بناء موازاة بين حالتين فريدتين. وحكمها أنه لا يصدر عن المقارنة، بما هي منهج معرفي حديث، بل عن المقارنة بما هي مجرد وجه قديم من وجوه البلاغة.
وقد رد فاسن على اللوز بأن ما توخاه هو محاولة فهم ما يقع في فلسطين باستخلاص العبر الكفيلة بوقف المذبحة المستمرة في غزة، في ظل رفض جميع الحكومات الغربية المطالبة بوقف إطلاق النار. وشرح أنه عقد لهذا الغرض علاقة تواز مع أحداث وقعت في ناميبيا أوائل القرن العشرين، وأنه لم يقصد انتهاج المقارنيّة، أي التقريب الممنهج بين حالتين، على غرار ما فعل آخرون عندما تساءلوا إن كان يجدر المماثلة بين الوضع في الأراضي الفلسطينية ووضع الأبارتهايد في جنوب إفريقيا. وأضاف أنه إنما استخدم ما سماه المؤرخ بول فان بـ«المقارنة التأويلية» التي تستخدم حالة تاريخية لإضاءة أخرى. أي أن الأمر لا يتعلق بالمساواة والمماهاة بين الحالتين، بل بالاستنارة بالأولى في تأويل الثانية.
كاتب تونسي