قطاع غزّة تحت حصار متعدد الجهات، متنوّع الأنماط، متباين الهمجية؛ يمكن أن يبدأ من دولة الاحتلال والاستيطان والعنصرية والبربرية الإسرائيلية، ولا يُنصف الغزاويون إذا قيل إنه ينتهي عند سلطات أنظمة عبد الفتاح السيسي و»حماس» ومحمود عباس. لكنّ غزّة، على غرار كلّ مساحة إنسانية وجغرافية محاصَرة، لا تنبض بأنساق من الحياة اليومية النابضة، المذهلة في عمقها وعراقتها وتماسكها، فحسب؛ بل هي، في ذلك كلّه وسواه، أنموذج طرواديّ الطبيعة والطابع، مقاوِم وصامد وإبداعي أياً كانت سُبُل جلاء خصائصه أو خفائها أمام ناظر يحدّق فيرى، أو يتعامى… فلا مناص إلا أن يرى أيضاً!
وقبل أيام تشرفت بالاستجابة لطلب أصدقاء شعراء فلسطينيين، من داخل غزّة ومن الشتات، لكتابة كلمة على غلاف مختارات شعرية من 14 شاعرة وشاعر ينتمون إلى الجيل الأحدث شباباً. وقد رأيت أنّ تلك النصوص تفلح، ببراعة مدهشة وأنفة منتظَرة واقتدار فنّي أكثر إدهاشاً، في تفادي التعبير عن الحصار بطرائق مباشرة أو تقريرية أو تقليدية؛ وليس هذا الخيار يسيراً في ضوء ما نعلم عن شرط الحياة اليومية في القطاع الفريد، داخله وخارجه، على أصعدة شتى لا تغيب عنها سلسلة الرقابات والقيود والمعوقات. ولهذا فإن ما تعكسه القصائد من مؤشرات الجسارة، بصدد وجود بشري حيوي ومقاومة تعددية مستدامة في آن، لا تبدأ من غلبة قصيدة النثر على شكل الكتابة، أو انكباب الموضوعات على تصعيد تفاصيل هامشية وذاتية، تقارب الملحمي على نحو إعجازي رغم أنها لا تتقصد البطولي.
اليوم أجدني، ومعذرة على هذا الانسياق الذاتي في قليل أو كثير، أشدّ ضعفاً من أن أقاوم رغبة الإشادة بكتاب لا أملك من الاختصاص في موضوعه إلا النزر اليسير، بل ذاك القسط الذي لا يكاد يُذكر في واقع الأمر، وهو الطبخ والطبخات والمطابخ. عنوان العمل «مذاق غزّة: أطعمة وتقاليد من الوطن» للسيدة ليما الشوا ابنة غزّة، وقد صدر بالإنكليزية مؤخراً عن منشورات Rimal Books في قبرص؛ بطباعة فاخرة لمجلد من القطع الكبير يقع في 285 صفحة، ويحتوي على عشرات الصور الفوتوغرافية البديعة (بعدسة فلك فايز الشوا خصوصاً، ومن الأرشيف الشخصي للمؤلفة) فضلاً عن مسرد يضبط بالإنكليزية جميع أسماء الأطعمة على اختلافها.
وليس الكتاب عادياً بمعنى اندراجه ضمن أمثاله من الأعمال المكرسة للطبخ، فالمرء هنا لا يتعرف على مطبخ إقليمي أو تاريخي أو قومي محدد، كما يُقال عن مطبخ حلبي أو تركي أو يوناني أو فرنسي مثلاً؛ بل ثمةّ طيّ شروحات الأطعمة ما يُدهش بعمق، ثمّ يعرّف أو بالأحرى يثقّف، حول تقاليد وعادات وأعراف، تمتزج في معرّفاتها علوم سوسيولوجية بأخرى أنثروبولوجية، من دون أن تُهمل الخلفيات الأغنى على مستويات الرمز والأسطورة والسردية والمخيال. وكيف لا تكون الحال هكذا إزاء ما لا يقلّ عن 14 عيداً، دينياً إسلامياً ومسيحياً، تُفرد لها غزّة أفانين الطعام والحلوى والشراب؛ ليس في أعياد كبرى مثل الفطر والأضحى والمولد النبوي ورأس السنة الهجرية وميلاد المسيح والفصح الشرقي ورأس السنة الميلادية فقط، بل كذلك أعياد السيد هاشم والمنطار وأربعائية أيوب والصليب والبربارة وشمّ النسيم…
ولأنّ المطبخ ليس أصناف الأطعمة والطبخات فقط، وليس تقاليدها وعاداتها وطقوسها فحسب، فإنّ المؤلفة تكرّس فصلاً غنياً وطافحاً بالمعلومات حول صناعة معدات الطبخ الفخارية، وتشير إلى وجود حيّ خاصّ في المدينة يحمل اسم «حارة الفواخير» وتستعرض من الفخاريات ما يُستخدم لحفظ الأطعمة أو المياه أو الطبخ: من «الجرّة» و«الزبدية» و«اللغن» و«القدرة» إلى «الكشكولة» و«والزير» والإبريق. المطبخ، إلى هذا، هو أمكنة الطبخ المختلفة وما يقترن بها من قواعد معمارية وصحية وهندسية. ولا تغيب عن هذا الفصل تقاليد توريد مياه الشرب، والتي بدأت من مهنة «السقا» واستمرت هكذا حتى بادر رئيس بلدية غزة رشيد الشوا إلى حفر بئر «الصفا» في أربعينيات القرن الماضي.
وأمّا الفصول التي تكرسها الشوا للوصفات المتنوعة، فإنها تكشف المزيد من ذلك الامتزاج بين المطبخ والحياة اليومية، وبين الطعام والوجود، وبين المذاق والثقافة والاجتماع؛ فضلاً عن أنها تنطوي على مقادير إضافية، غير منتظَرة أحياناً، من الإدهاش والإبهار. هنالك أصناف الحساء/ الشوربات؛ السلطات؛ الأطعمة النباتية («خبيزة بالزيت» و»ّفتّة عدس» و»فتّة قرع» على سبيل الأمثلة)اللحوم والطيور؛ البحريات؛ والمخللات. في فصل «التحلاية» أو ما تطلق عليه الحياة المعاصرة تسمية الـDesserts، تسرد الشوا 13 صنفاً، بعضها معروف ومألوف بالطبع، وداخل في مطابخ الشرق بصفة عامة؛ لكنّ بعضها الآخر محليّ تماماً، مثل «الكنافة الغزاوية».
وفي مقدّمة قصيرة تشير الشوا إلى اكتشافها، في سنة 1999 فقط، أنّ المطبخ الغزاوي يختلف عن مطبخ الضفة الغربية في اعتبارات كثيرة ليست مقتصرة على طرائق تحضير هذا أو ذاك من المكوّنات، بل كذلك في الإدخال الملحوظ للبحريات، والفلفل، والأطباق النباتية. ولا عجب في هذا، غنيّ عن القول، لأنّ غزّة هاشم بن عبد مناف تظل مقام تاريخ ضارب في القدم والعراقة وائتلاف أو اصطراع الثقافات والأديان والغزاة؛ وهي طروادية بامتياز، وهكذا تبقى، في القصيدة كما في المطبخ!
أستاذ صبحي حديدي، أنت تقول إن مدينة غزّة تحت حصار متعدد الجهات، متنوّع الأنماط، متباين الهمجية من قبل الكيان الصهيوني ذاته ومن قبل أنظمة استبداد أخرى مثل السيسي و«حماس» ومحمود عباس وغيرها كثير – هذا من جهة؛
ومن جهة أخرى، معروف أن مدينة طروادة (التي برز اسمها من خلال قصة الحصان الخشبي واستخدامه بالحيلة كمخبأ للجنود الإسبارطيين) قد حوصرت وقتها من جهة واحدة، وواحدة فقط، ومن قبل جيش هؤلاء الإسبارطيين المحتالين دون سواهم؛
فأين وجه الشبه بين مدينة مدينة غزة ومدينة طروادة حتى تأتينا بهذا المجاز المركب واصفا المدينة الأولى بـ«غزة الطروادية» ومسهبا بالكلام الإنشائي الطنان بناء على هذا الوصف على الرغم من اقتضاب مقالك – حقيقة شبعنا كثيرا وإلى حد التخمة والملل من هذه الأوصاف الأوروبية «الاستغرابية» كمثل «غزة الطروادية» و«بيروت الباريسية»، التي تذكّر بمقارنات أدونيس مثل المتنبي «شكسبير العرب» وأبو تمام «مالارميه العرب» إلخ إلخ !!!!؟
الكلمة الواقعية المتأصلة بتربة الواقع هي الكلمة التي سوف تبقى بصدقها مهما طال الزمن !!!!؟
.. أحيي من أعماق القلب الأخت سلمى سعيد ذات الذائقة النقدية الأدبية الرفيعة على ملاحظاتها القيمة والمنورة وخاصة الجملة الأخيرة: “الكلمة الواقعية المتأصلة بتربة الواقع هي الكلمة التي سوف تبقى بصدقها مهما طال الزمن” …..
إن كانت غزة طروادة أوقعت بالعدو الصهيوني فإن السلطة التي آثرت ” السلم ” قد وقعت وقعة تانيت.
الأخت سلمى سعيد طروادة صارت رمزا لكل مدينة محاصرة على الارض والرمز لا يحتاج الى انطباق الحافر على الحافر هذا غير ان نسبة غزة الى طروادة مجرد مجاز ولا هو استغراب ولا يمت بصلة الى مقارنات تذكرينها من نوع شكسبير العرب ومالارميه العرب .. و(الكلمة الواقعية المتأصلة) لا تلغي الرمز ولا المجاز والا جعلنا تراث الانسانية الرمزي والمجازي اضيق من ثقب ابرة !!!
الأخت سهيلة نبي : أعتقد أن كلام الأخت سلمى سعيد صحيح مئة بالمئة في السياق ؛ طروادة صارت رمزا هذا صحيح ولكن بالنسبة للأوروبيين وهم يتباهون بذلك من منطلق “المركزية الأوروبية” المتعالية وإلى حد الغطرسة ؛ لدينا نحن العرب في التراث العربي (قبل الإسلام وبعده) من الرموز الدالَّة والهامة والعميقة ما لا يُعد ولا يُحصى ؛ ولا أعتقد هنا أن القصد هو إلغاء الرمز والمجاز كما فهمتِ [[بأن (الكلمة الواقعية المتأصلة) لا تلغي الرمز ولا المجاز والا جعلنا تراث الانسانية الرمزي والمجازي اضيق من ثقب ابرة !!!]] ؛ المشكلة هنا تكمن في “الاستغراب” التقليدي باستنساخه المقيت لدى مثقفينا كمقابل لـ”الاستشراق” المتعالي هو الآخر لدى الأوروبيين بمفهوم إدوارد سعيد ؛ مع التحية للجميع
أصبتِ أختي خديجة بنت طالب ، كلامكِ جواهر ، أثابكما الله كل الخير ، أنتِ والأخت سلمى سعيد
يرحم والديك … ذكرتنا بالخبيزة ولكن مع الاسف ان اغلب الخضراوات الارضية تسقى مختلطة بمياه عادمة… حتى البحر والسمك بات يئن من تلوثه !