غزّة و«العمّال» البريطاني: أبعد من ستارمر والتصهين المتأصل

حجم الخط
0

لعلّ من الإنصاف التذكير بأنّ فئة، غير ضئيلة، من أنصار جيريمي كوربن، زعيم «حزب العمال» البريطاني السابق، يدفعون اليوم ثمناً باهظاً، سياسياً وتنظيمياً وأخلاقياً، جرّاء تصويتهم لصالح كير ستارمر خلال انتخابات قيادة الحزب في ربيع 2020؛ ظنّاً منهم أنّ الأخير يمكن أن يُدخل صياغات «ألطف» وأكثر جاذبية لدى الناخب المحايد من تلك التي دأبت عليها مجموعة كوربن. وإذا لم يكن جديداً أن يتأزم الحزب حول ملفات ذات صلة بدولة الاحتلال الإسرائيلي وحقوق الشعب الفلسطيني عموماً، ثمّ الحروب الإسرائيلية الوحشية المتعاقبة ضدّ قطاع غزّة المحاصَر منذ 16 سنة خصوصاً؛ فإنّ حال التأزّم الراهنة تكتسب صفة الشرخ الآخذ في الاتساع والتعمق بسبب مواقف ستارمر، الذي لم يكتفِ بتأييد العدوان الإسرائيلي الراهن على القطاع وسكانه المدنيين ورفض مبدأ وقف إطلاق النار، بل ذهب إلى سوية فاضحة في الانحطاط حين صادق على شرعية دولة الاحتلال في قطع الغذاء الماء والكهرباء عن غزّة.
ورغم أنّ ستارمر سعى إلى الالتفاف حول ذلك التصريح، من دون أن يسحبه أو يعتذر عنه، مكتفياً بالترويج لمعزوفة «الهدنة الإنسانية» والفذلكة اللفظية حول القوانين الدولية التي تنظّم شؤون الحرب، خاصة خلال مؤتمر صحافي عقده في شاتام هاوس؛ فإنّ الشرخ يتسع أكثر فأكثر، على مستويات قواعد الحزب المسلمة، وأعضاء المجالس المحلية، وعدد من نوّاب الحزب، وصولاً إلى بعض وزراء الظلّ. ثمة ما يقترب حثيثاً من تحرّك عصيان تتنوّع مظاهره بين اعتصامات أمام مقرّ «حزب العمال» تهتف ضدّ ستارمر بالاسم؛ وبين استقالات من الحزب ومجالسه في مراكز مدنية كبرى مثل العاصمة ومانشستر وكامبرج وأكسفورد وغلوستر؛ ومساندة نوّاب عماليين (زارا سلطانة، جون مكدونيل، غراهام موريس، بيث ونتر) لاقتراح مجلس العموم وقف إطلاق النار؛ ومبادرة 60 من نوّاب الحزب إلى الدعوة ذاتها، ضمن تحرّك مستقل؛ فضلاً، بالطبع، عن مشاركة عضو البرلمان العمالي أندي مكدونالد في مسيرة لندنية متضامنة مع الفلسطينيين، قال خلالها: «لن نكلّ حتى نحصل على العدل. حتى يمكن لجميع الشعوب، إسرائيليين وفلسطينيين بين النهر والبحر، أن يعيشوا بسلام وحرّية» الأمر الذي استوجب مسارعة ستارمر إلى تعليق عضوية مكدونالد في الحزب.
ومن الجائز الافتراض بأن قلّة اكتراث ستارمر بأصوات ناخبي «العمال» المسلمين ينطوي، موضوعياً، على استخفاف بوزن هذه الشريحة قياساً على ما يَفترض بأنها كتلة الحزب الناخبة الأوسع، في صفوف أفراد الطبقة العاملة من البيض، بريطانيي الأصل؛ وهذا إلى جانب تسخير ما يتيسّر لسياسات ستارمر الراهنة من سرقة أصوات ناخبي حزب المحافظين (ضمن متابعة، ناسخة طبق الأصل، لخيارات توني بلير و«العمال الجديد»). الخطأ الفادح، الذي اتضح وتأكد بقوّة بسبب مواقف ستارمر في التأييد الأعمى لدولة الاحتلال الإسرائيلي، هو أنّ كتلة انتخابية أخرى هامة وكبرى تتمثل في ناخبي المدن من أصول أفرو ـ كاريبية وجنوب آسيوية؛ وهؤلاء تكفلت تظاهرات بريطانيا التضامنية مع غزّة وأهلها بإيضاح ميولهم الفعلية، الرافضة على نطاق واسع لخيارات «العمال» الحالية بصدد غزّة والوحشية الإسرائيلية.

إذا جاز أنّ هموم بريطانيا الداخلية، الاقتصادية والاجتماعية تحديداً، تمنح ستارمر تفوّقاً على رئيس الوزراء الحالي ريشي سوناك، فلماذا يتوجب أن تُعلي شأنه في ملفّ السياسة الخارجية الذي أثبت مراراً أنّ خبرته فيه محدودة؟

ولا يلوح، حتى الساعة على الأقلّ، أنّ انخراط ستارمر في نهج تصفية اليسار داخل الحزب، مقابل تعزيز أجنحة اليمين، ومغازلة «المحافظين» عقائدياً؛ سوف تنتهي إلى استيلاد نسخة ثانية من «العمال» على طريقة بلير، سواء حقق الحزب نصراً صريحاً في الانتخابات المقبلة أم خسر مقاعد لا تقلّ صراحة ومكانة لصالح المستقلين أو الليبرالي
ولا يتورّع بعض مؤرّخي «العمّال» عن التشديد على عنصر محوري كان وراء تصعيد ستارمر على جثة كوربن، عملياً، وتمثّل في تضخيم تهمة العداء للسامية التي أُلصقت بالأخير، إلى درجة قصوى أُريد لها أن تطبع الحزب في مجموعه، أو في قطاعات واسعة داخل صفوفه؛ وذلك رغم أنّ لجان التحقيق التي لم يتأخر الحزب في تشكيلها، وحظيت بمباركة جلية من كوربن نفسه، خلصت إلى خلوّ الحزب، جماعياً وعلى مستويات تنظيمية شتى، من العداء للسامية كظاهرة أو تيار أو نهج. والتاريخ الوقائعي، وليس ذاك الذي يستخلصه المؤرّخ، سجّل على سبيل المثال أنّ ستارمر، زعيم الحزب الجديد، لم يتردد في الفتك الفوري بعدد من معارضيه داخل قواعد الحزب، بما في ذلك منافسته في انتخابات قيادة الحزب ربيكا لونغ بايلي التي حصلت على 135 ألف صوت. وكانت الأخيرة تشغل حقيبة التعليم في حكومة الظل، و«الإثم الفظيع» الذي ارتكبته، في ناظر ستارمر وقيادته، كان إعادة تغريد تصريح للممثلة البريطانية ماكسين بيك تتهم فيه الاستخبارات الإسرائيلية بتدريب الشرطة الأمريكية على تكنيك الضغط بالركبة، الذي أدى إلى وفاة المواطن الأمريكي جورج فلويد.
وليس من دون مغزى بالغ الخصوصية أنّ حوافز ستارمر في مساندة العدوان الإسرائيلي على غزّة، إلى درجة قصوى ذهب فيها أبعد من الحماقة عندما بصم على حقّ الاحتلال في قطع الغذاء والماء والكهرباء، لا تبدأ فقط من نزوعاته الصهيونية المتأصلة (التي لا يكترث بإخفائها في كلّ حال، بل يفعل العكس في الواقع: «أنا أدعم الصهيونية بلا توصيف أو تحفّظ»)؛ بل تمرّ، عن سابق قصد وتصميم، بتكتيكات استمالة العدد الأكبر من مانحي التبرعات الأثرياء، وهم غالباً صهاينة متأصلون، أو سرقة بعضهم ممّن اعتادوا التبرّع للمحافظين. ولا مشكلة، كما تبيّن، إذا كانت شركة كبير هؤلاء المتبرعين (رجل الأعمال غاري لوبنر، المتبرّع بمبلغ 5 ملايين إسترليني حسب صحيفة «فايننشيال تايمز») قد تورطت في التحايل على العقوبات ضدّ نظام الأبارتيد في جنوب أفريقيا.
ثمة، استطراداً، تاريخ أقدم لانجراف «العمّال» نحو التأييد الأقصى، الأعمى أو حتى العشوائي في حالات عديدة، ليس لدولة الاحتلال في توصيفها التبسيطي ضمن تبشيرات الحزب العقائدية (أنها «ملاذ» لليهود المضطهدين) فحسب؛ بل كذلك، وأوّلاً ربما، لأنّ الحزب كان على الدوام رديف التاج ومؤسسة الحكم، وسند المشاريع الاستعمارية، وهذه حال دشنها مؤتمر مشهود للحزب عُقد في 10 آب (أغسطس) 1917، أي قبل ثلاثة أشهر من تاريخ رسالة وزير خارجية المملكة المتحدة آرثر بلفور إلى اللورد روتشيلد وحملت الوعد الشهير المشؤوم. تواريخ لاحقة سجّلت التالي، على سبيل الأمثلة فقط: في مؤتمر 1920، تبنى الحزب قراراً عنوانه «فلسطين لليهود»؛ وخلال الانتخابات العامة لسنة 1935، أعرب زعيم الحزب كلمنت أتلي عن الافتخار بمساندة الصهيونية «في الأيام السوداء للحرب الكبرى».
وعلى سبيل تشخيص الموقع الإجمالي الذي يحظى به زعيم «العمال» في هيكلية الحزب القيادية الراهنة، تلجأ أسبوعية الـ»إيكونوميست» البريطانية، العليمة النافذة غنيّ عن القول، إلى هذا المعيار الطريف: كيف يمكن لظلال كوربن (معلَّق العضوية، والممنوع من الترشيح لمجلس العموم باسم الحزب) أن تنحسر عن قامة ستارمر، الذي خدم في حكومة الظلّ ثلاث سنوات حاملاً حقيبة البركست؟ وإذا جاز أنّ هموم بريطانيا الداخلية، الاقتصادية والاجتماعية تحديداً، تمنح ستارمر تفوّقاً على رئيس الوزراء الحالي ريشي سوناك، فلماذا يتوجب أن تُعلي شأنه في ملفّ السياسة الخارجية الذي أثبت مراراً أنّ خبرته فيه محدودة؟
إلا إذا كانت «الخبرة» تخصّ اللهاث المحموم، الأقرب إلى الهستيريا، خلف سياسات دولة الاحتلال الإسرائيلي، وقيادة الحملات الشعواء رافعة فزاعة العداء للسامية؛ وهذا مآل تأنف الـ«إيكونوميست» عن، ولا تتجاسر أصلاً على، النظر فيه.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية