«ليس الطريق إلى التنوير عبر إخفاء التاريخ، بل عبر فهمه ومواجهته»
نيلسون مانديلا
لقد ترك مقتل الأمريكي الافريقي جورج فلويد، ندبة على جسد العنصرية البنيوية في الغرب، التي ما زالت تنخر المجتمع الإنساني. فها هي التماثيل التي رمزت إلى تاريخ مجيد استعماري، تُحاكم بموجة ثقافية جديدة داخل المجتمعات الغربية، التي تعيد النظر في كثير من الأمور، حول محاسبة الشخصيات التاريخية بناء على توجهاتها العنصرية وبديهيات ترسخها، لكي يطرح التساؤل عما بعد رمزية التماثيل العنصرية؟ أي زمن المحاكمة «الشعبية» لتاريخ العبودية والعنصرية وتفوق العرق الأبيض.
القوة الرمزية للتماثيل
يقول المفكر العربي إدوار سعيد: «إن اختلاق الإرث هو ممارسة كثيرا ما استغلتها السلطات، بوصفها أداة حكم في المجتمعات ذات التجمعات البشرية، فهو منهج لاستخدام الذاكرة الجمعية بشكل انتقائي، من خلال التلاعب بقطع معينة من الماضي القومي، بطمس بعضها وإبراز بعضها الآخر بأسلوب توظيفي، بكل ما في الكلمة من معنى. ومن هنا، ليست الذاكرة بالضرورة ذاكرة أصيلة، بل هي على الأصح، ذاكرة نافعة». ومن هنا تثار أسئلة تصحيح التاريخ، عبر فهمه ومواجهته في المجتمعات الغربية. وحول الطريقة المثلى للتعاطي مع تاريخ التماثيل، بين ما هو متشدد بدأ في تحطيمها، ومحو ذاكرة القادة التاريخيين للاستعمار الأوروبي. ترى بريا مفادا غوبال، المحاضِرة في أدب حقبة الاستعمار وما بعد الاستعمار في جامعة كامبريدج، أن ما يجري لا يرتبط بمحاولة طمس التاريخ أو إعادة كتابته، إنما محاكمة السرديات التاريخية، وتحدي النظرة الأحادية التي طبعت هذه السرديات، التي تقدم عددا من الشخصيات التاريخية كأبطال متفق عليهم. وتؤكد غوبال أن «التاريخ لم يعرف لحظة اتفق فيها الجميع على أفعال أحد ما، أو على شخصه» فأبطال بعض الناس هم شياطين أناس آخرين. فتدمير التماثيل يعني الرغبة في محو من الذاكرة الجماعية للرجال والنساء، الذين ميزوا بطريقتهم الخاصة المجتمع الذي يعيشون فيه، وكذلك إقامة محاكم رمزية للذاكرة الجماعية، وعلى العلاقة التي تربطها بماضيها. من قبل الذين يناضلون من أجل المساواة في الحقوق ووضع حد للعنصرية، إن تدمير عمل فني ليس عملا تافها، بل هو تعبير عن كسر هيكلي عميق في رمزية ودلالات حراس الذاكرة الجماعية بالفكر الغربي الاستعماري.. ونذير بتغيير عميق في المجتمع.. ورفض دفع ضريبة التلوث البصري اليومي لتماثيل ذات بطولات ورمزية مشكوك فيها. لأن هذه النصب تمثل أسسا مؤلمة للبلدان التي نصبت فيها، وهي في الأخير إصدار خيالي من تاريخ العبودية والعنصرية.
في حين يرى قسم من ذوي البشرة البيضاء الأوروبيين والأمريكيين، أنه ينبغي لنا أن لا نضحي بالذاكرة التي تجسدها هذه التماثيل على مذبح المراجعة التاريخية، أي إعادة سردية الاستيطان والاستعمار الأوروبي. التماثيل أكثر بكثير من الأعمال الفنية، فهي أشياء مشبعة بقيمة ذاكرة قوية، من خلالها يستطيع المواطن فهم تطورات المجتمعات الماضية، وفهم العالم الذي يعيش فيه، وتعلم الدروس التي يجب أن يفعلها من أخطاء أسلافنا. إن إزالة التماثيل يعني إنكار تراثنا، وإنكار جزء من هويتنا الجماعية والفردية، وقبل كل شيء فتح الباب أمام التعديلية التي تتجاهل الجوانب السلبية لماضيها، ما يؤدي إلى إعادة كتابة التاريخ، حيث تغيب كل الموضوعية. ينبغي أن لا تكون هذه التماثيل المنتقدة كثيرا مصدرا للانقسام، بل على العكس مصدرا للإلهام الجماعي، يمكن للمواطن من خلاله استخلاص دروس من الماضي، لتحريك المجتمع نحو عصر يميل فيه التمييز إلى أن يتلاشى لصالح التسامح الكبير.
قال رئيس لجنة هنود أمريكا الأصليين رودي أورتيغا جونيور، إنه يريد أن يسمع السكان الأصليين والقبائل يعبرون عما يرغبون في مشاهدته، بديلا عن تمثال كريستوف كولومبوس، كأن يكون هناك تمثال لشخصية تاريخية من السكان الأصليين في لوس أنجلس، أو نصبا يخلد التاريخ الحقيقي للمدينة وسكانها الأصليين.
تعديل التاريخ الرسمي
يشرح المؤرخ مارتن باكيه من جامعة لافال في كندا، الأمر ليس سؤالا يشوبه الماضي، بقدر ما هو تعبير عن تحد عميق للسلطة والعلاقات المعاصرة، ومع ذلك، فإن مارتن باكيه، في كثير من الأحيان، لا يعمم التحدي، «العديد من المواطنين ينقلبون ضد فضحهم، لأنه على الرغم من الرمز الذي نفضحه – من الذي لا يزال يمكن أن يكون مؤيدا للعبودية؟ – هذه مراجع شائعة ويومية متنازع عليها. وبعبارة أخرى، نحن نشهد الآن صراعا في الذاكرة، وليس استئصالا للذاكرة». غير أن رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، لا يحبذ هذا الرأي. فجونسون – الذي نشر كتابا عن حياة تشرشل – كرد تعقيبا على الأحداث الأخيرة قائلا إنه «لا يمكننا الآن محاولة تعديل ماضينا. لا يمكننا التظاهر بأن لدينا تاريخا مختلفا. وفي إزالة التماثيل كذب على التاريخ». وأضاف: «من الواضح أن الاحتجاجات قد اختُطفت من قبل جماعات تعتزم العنف». في حين عبّرت، حفيدة تشرشل إيما سومز، عن حزنها بسبب تحول جدها من شخصية «وحّدت» البلاد إلى شخصية جدلية، معربة عن تفهمها لسبب الشرخ المرتبط بآراء جدها «غير المقبولة» اليوم. وأضافت سومز أن بريطانيا «وصلت إلى مرحلة، يتم فيها النظر إلى التاريخ بمنظار الحاضر كثير جدا، لا يمكن أن يستمر».
في لندن، استُهدف تمثال رئيس الوزراء البريطاني الأشهر ونستون تشرشل، كان المحتجون الذين قاموا برش تمثاله بعبارة «كان تشرشل عنصريا» يركزون على ما يرونه أدوارا إجرامية له، ذاكرين مجاعة بنغال (عام 1943) التي أودت بحياة ثلاثة ملايين شخص على الأقل. كما انتقد الناشطون المناهضون للعنصرية منذ فترة طويلة ونستون تشرشل بسبب تصريحاته القاسية ضد مختلف الشعوب «غير المتحضرة». كما ينسب بيان عنصري إلى تشرشل، خلال مجاعة البنغال في الهند عام 1943: «أكره الهنود. إنهم شعب متوحش ذو دين متوحش».
وفي بريستول، نفّذ أحد المحتجين محاكاة لمقتل جورج فلويد تحت ركبة شرطي أمريكي أبيض، بوضع ركبته فوق رقبة تمثال إدوارد كولستون المسجى على الأرض، في مشهد جسد نوعا من أنواع «العدالة المستعادة». أما في بلجيكا، فقد وقع أكثر من ثمانين ألف شخص على التماس إلكتروني يطالب بإزالة تمثال الملك ليوبولد الثاني، الذي – كما يقول الالتماس – بطل للبعض، لكنه قاتل جماعي لعدد كبير من الناس فقد قتل أكثر من 10 ملايين كونغولي في غضون 23 عاما، بدون أن تطأ قدمه أرض الكونغو الافريقية.
وفي أمريكا، كتب بعض المحتجين عبارة «مالك رقيق» على تمثال جورج واشنطن، أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة وأول رؤسائها. وفي عبارة ساخرة، كُتب على الجانب الآخر للتمثال، «حمى الله أمريكا» بإعادة حرف الكاف ثلاث مرات، في إشارة لجماعة الـ»كو كلوكس كلان» التي تؤمن بتفوق العرق الأبيض. وقام آخرون بقطع رأس تمثال كريستوفر كولومبوس مكتشف «العالم الجديد».
نقد التاريخ الاستعماري
لقد بدأت بالعالم بوادر منهجية جديدة في نقد التاريخ الاستعماري الاستيطاني. وهل نقف عند عنصرية التماثيل فقط؟ أم نبدأ بمراجعة المناهج الدراسية والأعمال الأدبية والفنية والموسيقية؟ يرى البعض أن أولى بوادر التوسع في نقد التاريخ قد بدأت بالفعل، مشيرين إلى قيام منصة «إتش بي أو ماكس» بإزالة فيلم «ذهب مع الريح» الذي يعد من أشهر الأفلام الكلاسيكية في السينما الأمريكية، نظرا لتصويره للعبودية. وقد أعادت الشبكة طرح الفيلم بعد تعديلات، تتضمن تنويها في مقدمة العمل بأن بعض مشاهده تندرج تحت بنود العنصرية.
كما في كاليفورنيا قالت العضو في هيئة مراقبي إقليم لوس أنجلس هيلدا سوليس، تعليقا على إزالة تمثال كريستوف كولومبوس، إن التمثال يعيد كتابة فصل مشوه من التاريخ، الذي يمجد توسع الإمبراطوريات الأوروبية، واستغلال البشر والثروات الطبيعية، كما قال رئيس لجنة هنود أمريكا الأصليين رودي أورتيغا جونيور، إنه يريد أن يسمع السكان الأصليين والقبائل يعبرون عما يرغبون في مشاهدته، بديلا عن تمثال كريستوف كولومبوس، كأن يكون هناك تمثال لشخصية تاريخية من السكان الأصليين في لوس أنجلس، أو نصبا يخلد التاريخ الحقيقي للمدينة وسكانها الأصليين. وفي إقليم كاتالونيا دعت الأحزاب إلى تحطيم أو نقل التمثال من مدينة برشلونة، نظرا لإيمانهم بأن دور كولومبوس في اكتشاف الأمريكيتين كان سببا رئيسيا في ترسيخ الاضطهاد، وإبادة الهنود الحمر في أمريكا، رافضين أن يكون هناك نصبا تذكاريا يذكّرهم بهذا التاريخ.
تحطيم الأسطورة
تبقى رمزية إزالة وتحطيم تمثال كريستوف كولومبوس بصفته مكتشفا غازيا للقارة الأمريكية، أكثر المواضيع إثارة للدراسة والانتباه بصفته «مكتشف أمريكا» في الكثير من المدن الأمريكية وخارجها. ففي كتاب الفيلسوف تزفيتان تودوروف «فتح أمريكا… مسألة الآخر». صادر عام 1992. اعتبر تودوروف أنها شهدت «أوسع إبادة في تاريخ الجنس البشري» أي أن سيرة البحار الإيطالي الذي أباد عشرات آلاف الهنود تمثل نموذجا للغزو والسيطرة، الذي انتهجته الحكومة الإسبانية ضدهم (يصل تعداد الذين استعبدوا ونقلوا للقارة الأمريكية بعد وصول كولومبوس إلى حوالي 12 مليون شخص في بعض الإحصائيات. ويُعتقد أن نسبة المفقودين في الشحنة الواحدة للمستعبدين، تصل إلى 50٪، أي أن هناك قرابة 12 مليون افريقي آخرين قضوا في الطريق إلى القارة الأمريكية). فغسق تماثيل العبودية والعنصرية؛ بداية خطوة رمزية على طريق للكشف عن السردية الحقيقة الأليمة للسكان الأصليين؛ التي تنطوي على مجازر واستعباد وهيمنة. فهناك مؤرخون وباحثون أمريكيون وأوروبيون، يعتبرون أن الوقت قد حان للاعتراف بما جرى قبل أكثر من 500 سنة، مهما كان دمويا. واستبدال ما بات يسمى بيوم كولومبوس في العديد من البلدان، التي كانت تحتفي به، ففي فنزويلا بات يسمى «يوم صمود السكان الأصليين» منذ عام 2002، وفي الأرجنتين أصبح يسمى «يوم احترام التنوع الثقافي» وتسميه بوليفيا «يوم إنهاء الاستعمار» والإكوادور بـ«يوم تنوع الثقافات» وتشيلي «يوم اللقاء بين عالمين». كما قررت مدينة لوس أنجلس الأمريكية، تغيير اسم يوم كولومبوس، إلى «يوم الشعوب الأصلية» لتكون أكبر مدينة أمريكية تجري هذا التغيير.
وكما قال ذات مرة مارتن لوثر كنغ، تنخر المجتمعَ الأمريكي أربعةُ أمراض: الفقر، ثقافة الاستهلاك، العسكرة والعنصرية. إن الطريقة التي يُقدم بها تاريخ كولومبوس لدى البيض في أمريكا يشير إلى تجذر بنيوية عنصرية العرق الأبيض الموازية للتمجيد الثقافي للإمبريالية الغربية.
ستبقى تماثيل كولومبس وغيرها في السنوات المقبلة، خصوصا مع تبدل المفاهيم، وسقوط الغطرسة والاضطهاد والظلم، والرموز والتعويذات والأعياد وتكاثف المفاصل التاريخية، موضع جدل كبير. وإلى إعادة النظر للتاريخ بمنهجية نقدية، تشتمل على إعادة التفكير في معنى أسطورة إرث الإنسان الأبيض في أمريكا.
٭ كاتب وناقد ومترجم مغربي
ستبقى العنصرية والظلم والتنمر والبطلجة سيدة السياسات الغربية مادام المال والسلاح والاعلام والمصالح هي من تحكم العلاقات وليست قيم الحق والسلام والتآخي واحترام حرية الانسان وكرامته وحقه في الحياة هي السائدة، فعلا فالعنصرية وروح الاحتلال وقهر الآخر الضعيف ونهب ثرواته وإذلال شعبه لم تبق مجرد نزوات ملوك ومزاج مستبدين، بل صارت قيما مهيكلة تدعمها بنى تحتية ومؤسسات وكارتيلات الرأسمال العالمي الذي كبر واشتد على جماجم الملايين من العبيد والهنود الحمر وشعوب المستعمرات وضحايا الحروب بعشرات الملايين ……!
شكرا اخي الماوردي ، فعلا العبودية والعنصرية والامبريالية كانت افة على المجتمعات المستعمرة. تحياتي.