ليس جميلاً أن نقرأ ما أعلنه المغني الفرنسي سيرج لاما مؤخراً، عن إقامة عدة حفلات على مسارح فرنسا، ستكون الأخيرة في مسيرته الفنية وقد بلغ السابعة والسبعين من عمره، هذا الفنان الذي لا نحب أن يودع الغناء أبداً، قال إن: «النهاية كلمة رهيبة»، ورغم ذلك طلب من محبيه أن يجعلوا من الوداع احتفالاً، محرضاً على الحياة كعادته، فهو إن كان معروفاً لدى الكثيرين بأغنية Je suis malade التي تعد من أكثر الأغنيات حزناً في العالم، بتعبيرها عن آلام القلب السقيم العليل، ووصول العاشق إلى درجة الانهيار والتحطم النفسي، إلا إنه كتب عدداً كبيراً من الأغنيات المرحة المبهجة، حيث تعلم حب الحياة وتقدير قيمتها منذ 55 سنة، وكان قد عرف النجومية لتوه، عندما اقترب تماماً من الموت، في حادث السيارة الشهير الذي أقعده لفترة عاجزاً عن تحريك كامل جسده، وأفقده حب حياته وخطيبته التي خلد ذكراها بأجمل الأغنيات الرومانسية كأغنية «القبلة الأخيرة». كما كتب الأغنيات الأكثر نضجاً، التي تمنحنا الحكم البسيطة، الصادقة والواقعية التي يمكن اتباعها، فهو رجل الكلمات بحق، هذا الذي لم يطلق على نفسه يوماً لقب شاعر، نتخيله شاعراً عندما يكتب الأغنيات له ولغيره من المغنين، وعندما يغني بأسلوب جميل نظن أن لا أحد يقدر على محاكاته، إذ يشعرنا بأنه يلقي قصيدة، لكن في الوقت نفسه لن نستطيع أن ننفي عن أسلوبه صفة الغناء، وهو يقوم بهذا الشكل من الأداء بتلقائية شديدة ومهارة فريدة، فهو كاتب قبل كل شيء، يكتب بغزارة منذ صباه، ولديه القدرة على تدقيق العبارات وتركيز الدلالات، ويمتلك قوة الإحساس وسعة الخيال.
وبينما هو يودع المسرح، نتذكر «غنائية نابوليون»، العرض المسرحي الذي حقق نجاحاً مدوياً في الثمانينيات، وتم عرضه في أكثر من دولة خارج فرنسا، ويعد العمل المسرحي الوحيد لسيرج لاما، إلى جانب الحفلات الغنائية الكثيرة التي أحياها منذ بدايته، كما يوجد ألبوم نابوليون الذي يضم كافة أغنيات المسرحية، فقد كتب لاما 40 أغنية عن نابوليون بونابرت، وتعاون موسيقياً مع إيف غيلبرت في تلحينها، وعندما نشاهد المسرحية أو نستمع إلى الألبوم، نجد إنه قدم سيرة الإمبراطور المهيب موسيقياً بشكل رائع، وكم كان يشبهه ويوحي بتجسده فعلاً على خشبة المسرح، ويختلف العرض المسرحي عن الألبوم في أنه يحتوي على بعض المشاهد التمثيلية، التي يغلب عليها الطابع الكوميدي في بعض الأحيان، والطابع الرومانسي في أحيان أخرى، وأظهر لاما موهبة تمثيلية لا بأس بها، وتميز في مشاهده العاطفية مع جوزفين، التي لعبت دورها الممثلة والمغنية الفاتنة كريستين ديلاروش، وأضفت سحراً على هذه الشخصية التي لا يخفت ذكرها ولا يخبو بريقها، كما أبدع بالطبع في أدائه للأغنيات، ويكون مؤثراً بدرجة كبيرة عندما نراه يجلس وحيداً فوق خشبة المسرح ليغني «رسالة إلى جوزفين» التي ربما تكون أشهر أغنيات العمل، وأكثرها انتشاراً وسماعاً بشكل منفرد، وتعبر هذه الأغنية عن ضعف الإمبراطور المهيب أمام الحب، واشتياقه لمعشوقته التي يكتب إليها ملتاعاً ومتألما لبعده عنها أثناء قيادته للحملة الإيطالية.
كتب لاما 40 أغنية عن نابوليون بونابرت، وتعاون موسيقياً مع إيف غيلبرت في تلحينها، وعندما نشاهد المسرحية أو نستمع إلى الألبوم، نجد إنه قدم سيرة الإمبراطور المهيب موسيقياً بشكل رائع
ويتميز العمل بشكل عام بتنوعه الموسيقي، من السيمفوني إلى المارش، والأغنيات السريعة الراقصة والميلودية، والأغنيات التي تبدو طفولية إلى حد بعيد أو هي طفولية بالفعل، مثل «فراب فراب فراب» وأغنية «نابوليوني لابايونيه» التي تروي لنا حكاية الطفل الكورسيكي نابوليون، الذي لا يستطيع أن يتحدث الفرنسية بشكل سليم، ويسخر منه أقرانه من الأطفال، ومن خلال الأغنيات جميعها، نستمع إلى كل شيء تقريباً عن حياة بونابرت، وقد انغمس سيرج لاما تماماً في سيرته، فبدت الأغنيات وكأنها تجري على لسان نابوليون وتنبع من روحه، ليس من المثير بالطبع تناول سيرة أي عسكري، لكن هل نابوليون شخصية عسكرية خالصة؟ أم إنه شخصية درامية في المقام الأول تصادف أن تكون عسكرية؟ وإذا قلنا إنه بطل تراجيدي، فما هو الخطأ التراجيدي الذي وقع فيه وفقاً لقواعد الدراما؟ هل كان رغبته في امتلاك أوروبا بأكملها، وفرض سطوته عليها، أم كان تحديه للأقدار وإصراره على إنجاب وريث للحفاظ على الإمبراطورية، ومن أجل ذلك تخلى عن معشوقته جوزفين، التي أحبها منذ رآها لأول مرة في صالون مدام تاليان، وكانت أرملة لديها ابنة وابن وتكبره سناً، ثم تزوجها سريعاً، وفعلت كل شيء واستخدمت كافة الوصفات المتاحة في زمنها، من أجل أن تنجب له الوريث، لكنها لم تتمكن من ذلك، وفقدت نابوليون الذي تزوج من ماري لويز النمساوية، التي أنجبت له «الملك الصغير» وعندما ضمه نابوليون إلى صدره واطمأن قلبه، وشعر بأنه ضمن خلود ملكه، فقد كل شيء وكان عقاب الأقدار قاسياً.
وهل كانت حياة هذا الإمبراطور إلا سلسلة من تقلبات الأقدار؟ فمن هذا الإيطالي الذي بالكاد صار فرنسياً، إلى إمبراطور فرنسا، ومن جندي صغير لا يلتفت أحد إلى موهبته الحربية الفذة ولا يقدرها، إلى القائد الفرنسي الذي هزم إيطاليا وهو في السادسة والعشرين من عمره، ثم صار فاتحاً جباراً مثل الإسكندر الأعظم، ومحباً للأدب والشعر مثل قيصر، وعندما بلغ الثامنة والعشرين من عمره كان على أرض مصر، يقف في وجه أهرامات الجيزة، يتحدث إليها ويجري معها حواراً طويلاً، ثم ذاق مرارة الهزيمة التي عبّر عنها سيرج لاما، في أغنيات مثل «كما هو الحال دائماً» و«جزيرة» و«سانت هيلين»، التي تتناول السنوات الست الأخيرة من حياة نابوليون، التي قضاها في منفاه على جزيرة سانت هيلين، وحيداً مهزوماً في مواجهة أقداره، بدون أي أمل في الانتصار مجدداً، في عزلة تامة، حيث لا شيء سوى البحر والسماء، والأفكار والذكريات، وثقل الوقت وتكرار اللحظات، وهذا الإحساس المميت بالنهاية التي هي بالفعل كلمة رهيبة.
٭ كاتبة مصرية
في فترة ما كان لي اهتمام بالاغنية الفرنسية عبرة بوابة شغفي باغاني جاك بريل و ايديت بياف و ازنافور
–
و تعرفت على بعض اغاني سيرج لاما كان انطباعي عنه انه يمثل مدرسة جاك بريل الغنائية فاغنيته
–
الشهيرة je suis malade فيها نفحة من اغنية بريل الشهيرة Ne me quitte pas
–
ميزة قوية تمتاز بها الاغنية الفرنسية القديمة هي قوة النص الشعري اكثر من الموسيقي
–
شكرا للاخت مروة على اختياراتها الدقيقة الموفقة
–
تحياتي
صحيح أخي خليل، كان أزنافور يقول بمنتهى الثقة إن الأغنية الفرنسية هي الأفضل كتابة في العالم، وكنت أشعر أحياناً أنه يسخر من الأغنية الأمريكية التي تحظى بشهرة ربما لا تستحقها. تحياتي لك