الغنيمة مفهوم حربي طوّره الاستعمال للغة السلمية لكن لا أحد فيما أعلم اعتبر السؤال غنيمة. الأسئلة غنائم في معنى أنّها تفتح عليك بابا من الأجوبة التي لم تكن تنتظره تسأل امرأة عجوز سائق الحافلة: هل أنت السائق؟ فيجيبها: بل أنا القائد. كان سؤالها غنيمة له لأنّه علّمها أنّه وهو في مكانه الذي هو فيه لحظة السؤال يمكن أن يكون أفضل مقاماً من المقام الذي وضعته فيه العجوز. لا يكون السؤال غنيمة إلاّ إذا أعطاك الفرصة لتثبت أنّك الأجدر وأنت تبني الجواب.
البلاغيون القدامى والبراغماتيون المعاصرون يكثرون من الحديث عن الاستفهام ويهملون قليلا أو كثيرا أداته التي يتكئ عليها وهي السؤال. هناك فرق كبير بين الاستفهام بما هو أسلوب أو عمل لغوي، والسؤال بما هو قاطرة ذلك الأسلوب الذي ينقله من طريقة كلام إلى أخرى، ودبابته التي يقود بها سلسلة الكلام ويحتل بها الأراضي التي يريد.
ما يسمّيه الفرنسيّون السؤال البلاغي وهو قريب ممّا نسمّيه السؤال الإنكاري يمكن أن يكون سؤال غنيمة. يقصد بالسؤال البلاغي أنّك تطرح سؤالا وتمضي في الخطاب دون إجابة، ولذلك يسمّى أيضا سؤال المتحدث أو الخطيب. ومن أمثلته التي يقدمونها له قول المسرحي والشاعر الفرنسي جان راسين Jean Racine في مسرحية أندروماك: «آه! هل كان ينبغي لك أن تثق في عشيقة حمقاء؟ ألم يكن حريّا بك أن تقرأ في عمق أفكاري؟
يطرح السؤال الأول ودون انتظار إجابة عليه يثنّي بسؤال آخر ولا ينتظر له إجابة. ما تراها ستكون الإجابة على من يقرّع نفسه ويضرب كفا بكف على أنّه صدّق أن عشيقته كانت مدّعية وأنّها إلى جانب كونها مدعية كانت حمقاء؟ سؤاله عن وجوب وقوع ذلك هو سؤال من كان بين جبرية وقدرية: بين من يعتقد أنّه مسؤول في عشقه عن اختياره ومن كان مجبورا على ذلك المسار. لا يجاب على السؤال الأوّل لا لأنّ السؤال خرج من إفادة معناه الأصلي وهو الاستخبار إلى معنى إنشائي آخر هو التقريع؛ بل لأنّه ليس لهذا السؤال جواب متعقّل فكلّ أجوبته محاولات عابثة تقرع السنّ ولاَتَ سَاعَةَ نَدَمٍ. السؤال الثاني وعلى النقيض من الأول يمكن أن يجيب عنه المستمع، لكن إن إجاب كان الجواب خطأ تواصليا وانخراطا في سوء الفهم إذ ماذا سيقول المجيب؟ هل سيجيب بالنفي فيمعن في الخطأ؟ أم يجيب بالإثبات فيمعن في الندم؟ فقد حصل ما حصل واكتشف أمر العشيقة زيفا وحمقا، ولم يقرأ من وقع في الخطأ في العمق، بل ظلّ سطحيّا.
السؤال غنيمة لا تردّ هو غنيمة فكرية في حرب مع القلب خسر فيها العاشق قلبه ووقته وتفطن إلى أنه كان يحارب وهو يعشق طواحين الريح. السؤال غنيمة في هذه الحرب، غنيمة وعي وانكشاف للحقيقة وانقشاع للضباب. السؤال غنيمة لا تردّ هو غنيمة لأنه حصالة تجربة حرب فاشلة كانت من أجل الهيمنة على قلب خاو.. حرب كانت بعتاد وبسلاح وبجيش عاطفي، والمدينة قلب الحبيبة النابض، كانت بلا شعب بلا أهل بلا ثروات، كانت حربا على خريطة ليس لها في الواقع أرض تمثلها. والغنيمة هي إدراك الحقيقة حتى بعد فوات الأوان.
هناك مدن يمنع فيها السؤال لأنّه مثير للفتن. المعارضة فيها ترمى بلعنة السؤال. في مدن السلطة المطلقة السؤال ينتج من طرف وحيد: من أنت؟ ما اسمك؟ هل أنت مُنتم؟ ماذا تفعل هنا؟ ما علاقتك بفلان؟ وغير ذلك من الأسئلة التي لا تستطيع أن تجرّد الأشياء مثلما يفعل ذلك شعبُ جمهورية الفلاسفة وإمبراطورية العلوم.. من أنت؟
هي غنيمة أن يطرح المرء على نفسه سؤالا بسيطا كان تائها عنه وهي غنيمة أن يعرف أيضا كيف يصاغ السؤال الذي كان تائها في مدن الزيف والبلاهة. السؤال غنيمة ثمينة، لأنه عقل استردّ وهو غنيمة يمكن أن يقايض بها قلب تائه كان يظن أنه أسير والحقّ أنّه كان طليقا.
هناك مدن للسؤال شعبها لا يفعل شيئا من الصباح إلى المساء غير أن يسأل في المؤسسات: مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا هي مدن مصغّرة للسؤال: يسأل المعلّم تلميذه ودور التلميذ أن يجيب. وتصاغ المعارف في قوالب من الأسئلة، ويظلّ المتعلّم يلهث وراء الجواب، وحين ينجح يكون السؤال غنيمة، وحين يرسب يكون السؤال أيضا غنيمة. السؤال الذي ليس له في الامتحان المدرسي جواب غنيمة عرضت نفسها ولم يستطع الفارس التلميذ أسرها فتعود إلى سادتها حزينة. السؤال الذي ينجح الممتحن في إيجاده غنيمة عرضت نفسها وفازت بآسرها. يصبح السؤال هو الغنيمة، لأنّ مدرستنا تعلّمنا كيف نأسر السؤال ونتغلّب عليه بالجواب، ولا تعلمنا كيف نصنع نحن السؤال. ما زال سؤال» إلى أيّ مدى؟» في الإنشاء يبلبل على كل ممتحن ذهنه.. هذا سؤال عن المدى لكن ليس له مدى.
هناك مدن يمنع فيها السؤال لأنّه مثير للفتن. المعارضة فيها ترمى بلعنة السؤال. في مدن السلطة المطلقة السؤال ينتج من طرف وحيد: من أنت؟ ما اسمك؟ هل أنت مُنتم؟ ماذا تفعل هنا؟ ما علاقتك بفلان؟ وغير ذلك من الأسئلة التي لا تستطيع أن تجرّد الأشياء مثلما يفعل ذلك شعبُ جمهورية الفلاسفة وإمبراطورية العلوم.. من أنت؟ في مدن التسلط سؤال يحوي غنيمة، لأنّك مهما أجبت فأنت أسير حرب إن قلت: أنا فلان فأنت لم تضف شيئا لأنّهم يعرفون من أنت، إنّما السّؤال غنيمة أولى تبشر بالإيقاع بك. في مدن الفكر سؤال من أنت؟ قضيّة مهمّة منطلقها عيّنة هي أنت ومنتهاها جنسك المجرّد من هوياته الصغرى أو الوسطى.. السؤال غنيمة أولى حتى تخرج عن ذاتك إلى نوعك إلى جنسك.. وفي العلم لا معنى لسؤال من أنت؟ هو غنيمة فاسدة عليك أن تتركها وتبحث عن غنائم أكثر قيمة من نوع افتراضي أو شرطي: إن أضفت للسكر ملحا ونقعتهما في الماء هل يتغير اللون؟ هل السكر غنيمة الملح أم الملح غنيمة السكر؟
الاستفهام شيء آخر تماما هو الأرض التي عليها تجمع الغنائم عند الحرب. الاستفهام لا يوجد إلاّ في الخطاب، ومهمته فيه أن يكسر رتابة أسلوب آخر هو الخبر أو التقرير. يبدأ الكلام سردا أو وصفا حتى يأتي الاستفهام.. يكون الجوّ صحوا مشرقا وتخيّم على سماء الخطاب غيمة السؤال ونغمته. حين يأتي السؤال في الاستفهام تتغير النغمة، ويتغير اللحن الرتيب وتقرع طبول الحرب فالفرق بين (أعجبني الشاي) و (أأعجبك الشاي؟ وهل ترغبين ببعض الحليب؟ وهل تكتفين كما كنت دوما بقطعة سكّر؟) ليس فقط في أن الكون في الأول سابق للإنشاء وفي الثاني لاحق، بل لأنّ النغمة قد تغيرت من نغمة من يسرد شيئا قد فات إلى نغمة متفجرة تريد أن تقرع ناقوس الولادة وناقوس خلق الكون.. حين تكونين مع من يسألك أأعجبك الشاي؟ عليك أن تفكري في الجواب لا في الشاي سيكون الجواب على مذاق السائل لا على طعم الشاي. أأعجبك الشاي؟ في أسلوب الاستفهام ليس سؤالا؛ هو طريقة حديث وليس السائل معلما يمتحن، أو شرطيا يستجوب، في الكلام اليومي أو الأدبي حين يأتي الاستفهام عليك أن تكون مستعدا كي تفكّر وتشعر وتختار به ما تجيب.. ماذا ستقولين لمن دعاك إلى جلسة شاي حين يسألك هذا السؤال؟ حتما سيكون السؤال غنيمة عليك أن توزعيها بعدل بينك وبين من جلبها إليك: إن قلت أعجبني الشاي فذلك يعني أنك خسرت الغنيمة لأنّ الشاي ليس إلاّ رمزا لقصة كانت ستطول بنوع الجواب.. إياك أن تنزل عندما يطرح عليك سؤال في المحطة المقبلة.. السؤال كالغنيمة ينبغي أن تخوض غمار حرب من أجل أن تجلب الجواب المناسب له.. عندها يعود الكلام إلى رتابته إلى جريانه وكأنّ شيئا لم يحركه.. وكأنّ السلام كان أبديّا ولم تدقّ طبول السؤال.
أستاذ اللسانيّات في الجامعة التونسية
السؤال باب المعرفة….و خلخال الفلسفة