غواية الذاكرة

مسني بعمق حديث صديقتي الكاتبة السويسرية كاترين عن شجرة الزيزفون الضخمة في قريتها الجبلية البعيدة. تقول كاترين: هذه الشجرة كانت موجودة دائما أمام بيت طفولتي، لم يعرف أحد سر وجودها المدهش في هذا المكان الجبلي البعيد، ولم يعِ أحد منذ متى هي موجودة، فهذا النوع من الشجر يعيش عادة في السهول الخصبة، لكنها قاومت بضراوة البرد والريح والثلج، ونمت وكبرت حتى أصبحت قوية عملاقة. استفقنا في صباح ليلة عاصفة، رأيناها مهشمة مرمية في العراء.
تضيف «كنت في كل مرة أعود بها إلى القرية، أرى شجرة الزيزفون في مكانها الثابت المعتاد، أمام بيت طفولتي، كما كانت دائما، قوية باسقة، مع أني كنت أدرك أنها قد ماتت منذ زمن بعيد».
حديث كاترين، وما مثلته شجرة الزيزفون في ذاكرتها من بعد زمني ومكاني. جعلني أدرك كم أننا نحن البشر متشابهون، فرغم البعد المكاني واختلاف الثقافات، إلا أننا محكومون بجيناتنا البشرية، في أننا الكائنات الوحيدة على وجه الأرض التي تملك رفاهية ذاكرة متطورة. هي سطوة الذاكرة يا كاترين! ربما هي عملية شاقة مثل الصعود إلى أعلى التل. ما يحدث أنها قد تكون أحيانا عصية، وأحيانا مراوغة، والأكثر انتقائية ومنحازة إلى الأشياء أو الأمكنة التي كنا نهتم بها.
أتساءل يا كاترين ما الذي يمكن أن نغدو عليه، لو أننا نعمنا بذاكرة مقفلة فقط؟
ماذا لو لم تؤرقنا حكايا الماضي، لو لم تضج في رأسنا الوجوه والصور والأماكن والروائح، حنونة وأحياناً مشاغبة، ماذا يحدث لو لم نتوغل في تلك الأماكن الخبيئة من أعماقنا، التي حين يغمرها الضوء، تنتقل من حالة السكون إلى حالة الحركة. فتعيد لنا بقوة المخيال ما عشناه في يوم بعيد. ألم تكن سطوة الذاكرة، ما أعاد شجرة الزيزفون الضخمة إلى رأسك، كلما عدت إلى القرية، رأيتها كما كانت موجودة دائما، في مكانها الثابت المعتاد، سامقة مخضوضرة قوية، رغم أنك كنت على يقين من أن العاصفة قد قضت عليها وهشمتها منذ زمن بعيد. فهل أبالغ إذا قلت إن الإنسان هو ذاكرته. وهي جوهر وجوده. وإن كل شيء سيبدو ناقصا غير مكتمل دون ذاكرة!
أنا أيضا لديّ الكثير من الأشياء التي رافقت نموي، جميلة بهية مشرقة، ما زالت ذاكرتي الانتقائية تراها هكذا، رغم أنها لم تعد موجودة اليوم. قضيت طفولتي في مدينة صغيرة قريبة من البحر وسط البلاد، يمر بها نهر العاصي مقبلا من لبنان، متابعاً سيره في الأراضي التركية، ليصب في البحر الأبيض المتوسط. يتميز عن غيره من الأنهار بخاصية فريدة، وهي التدفق العكسي لمياهه المتجهة من الجنوب إلى الشمال، على عكس أنهار المنطقة. لم يكن ما أردته من هذا الوصف، هو التوصيف الجغرافي للنهر. ما أردت قوله، أن هذا النهر، كان بحق هبة الله لمدينتنا، وهو يتفرع إلى فروع صغيرة، ويشق طريقه في البساتين والمزارع والقرى المجاورة، فيهبها الزرع والضرع والحياة، ما زال مشهد أشجار الصفصاف وهي تتمايل وتتدلى في مياهه فاتناً في ذاكرتي. كان على بعد خطوات من بيتنا، لكن هذا النهر الجميل كان عاصياً فعلاً، ماكراً وغداراً، أخذ ابن اختي الصغير، غرق فيه وهو يلعب مع رفاقه على ضفافه، لم يستطع أن ينجو، كان بلا سياج يحميه، أثرت هذه الحادثة على عائلتنا، كسرت روحها لزمن طويل، ابتعدنا عن النهر، فقد سحره في نظرنا، وفقد حفيف أغصان شجر الصفصاف موسيقاه وشجوه، لم يعد جميلا في ذاكرتي.
سأحدثك عن صورة أخرى أثرت بعمق أيضا في ذاكرتي..
أنا أصدق غاستون باشلار يا كاترين في كتابه «جماليات المكان» الذي أوضح فيه الأسباب العميقة لارتباطنا بالمكان الأول البيت الأول، الذي هو رمز الألفة المحمية. فمنذ أن تفتحت عيناي على الحياة، كانت شجرة الأكاسيا، رابضة أمام بيتنا، تملأ حينا وكل أحياء المدينة بالظل والعطر والخضرة والشكل الحسن، كنت أراها لا تشبه أي شجرة أخرى، أنثى في كينونتها وفي حضورها وعطائها، وفي تفتح براعمها عن زهور ناصعة البياض، لا أبالغ إذا قلت إنها كانت مكاناً حقيقياً، أعطى لمدينتنا هويتها وعنوانها. قد لا أعي منذ متى هي موجودة، لكني أعرف أنها كانت موجودة في حياتنا على الدوام، في البرد والمطر والحر والريح، أكاد أشم رائحتها الآن مع عرائش الياسمين، التي تتدلى من على أسيجة البيوت، ونحن نتناول قهوة الصباح، في أرض الديار حول البركة والنافورة، بل هذا يجعلني أكاد أسمع حتى إيقاع نهاراتنا يا كاترين، أكاد أرى أمي وهي تجلس على كرسيها الأثير أمام النافذة، التي تطل على تفرعات بيوت الحي، وتفضي إلى ساحة المدينة الرئيسية التي شهدت أحداثا وتواريخ كثيرة، واحتضنت آمال وأحلام أجيال عديدة.
كثير من الصور البعيدة تستدعيها الذاكرة، قد يبدو بعضها أقل أهمية وتأثيراً، لكن لا بد أن تداعيات الذاكرة انتقائية ومنحازة دائما لما نحب ونرغب، وإلا لماذا تتداعى أمامي الآن، صورة «قطرميزات» كبيس اللفت الأحمر الشهي، وهي مصفوفة بعناية، على سطوح البيوت الواطئة، وهي تستوي على مهل، تحت شمس الشتاء الخجولة من أجل مونة شتائية طويلة. تغير الزمن، وتغير المشهد، أصبح ثقيلا، جفّ نهر العاصي، أيدي خبيثة لعبت في مصيره، وأُبيدت شجرة الأكاسيا، رأيتها أمام عيني مهشمة مرمية في الطرقات. واختفت قطرميزات مخلل اللفت الأحمر من على سطوح البيوت. حدث هذا قبل أن تتوغل الحرب في البلاد، بفعل أيد خبيثة ظالمة وغشيمة، لا تحب الجمال، أرادت أن تسرق سر المدينة وتمحو هويتها، كانت تمهد لما سيحدث وما حدث من آلام. كان هذا محزنا، لكنه لم ينجح في أن يهزم هذه الصور من ذاكرتنا.
أفكر في أن الحرب ليست قتلا وموتا يخطف الأرواح، إنما في ما تخلفه من دمار في النفوس، في قدرتها على الاستيلاء على الأشياء الجميلة داخلنا. من حسن الحظ، أنه ما بين تلك المسافة المبهمة بين الحاضر والماضي، تبدو تلك الصور في الذاكرة، تحمل تاريخها السري من اللذة والألم، في مكانها الثابت، ملهمة وكتومة، ترتبط بأشياء بعيدة جدا، عميقة جدا، يمكن أن يكون الزمن أحد قضاياها، العجيب أنه سيظل لمذاق ومرأى هذه الصور، حتى لو رأيناها مئات المرات، ذات الإحساس الذي كنا فيه، لحظة رؤيتها في المرة الأولى، عندما كنا أطفالا، في بيتنا الأول. وإذ أتأمل هذه الصور اليوم عزيزتي كاترين، أشعر للحظة كأني أتأمل سيرورة الزمن ذاته، الزمن الذي يمضي، يدفعنا من حياة إلى أخرى. فها أنذا اليوم أقف في الطرف الآخر من العالم أرقب لعبة الزمن التي قادتني إلى هذا المكان وأغمض عيني على مشهد يستكين على وعد، ربما لن يتحقق، فالبيت ما زال بعيدا.

 كاتبة سورية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية