اختار مخرج فيلم «أوبنهايمر» مشهدا حميما يجمع العالم الفيزيائي الأمريكي الشهير مع جين تاتلوك، صاحبته (ثم زوجته وطليقته) الشيوعية، تختار فيه جملة من كتاب الهندوسية المقدّس «بهاغافاد فيتا» (أغنية الرب أو نشيد الله) لتمتحن قدرته على الترجمة من السنسكريتية.
«أصبحت الموت. مدمّر العوالم» يرد جوليوس روبرت أوبنهايمر الأمريكي من أصل ألماني، المنحدر من عائلة يهودية غنية وصاحب الميول اليسارية، بتلك الجملة التي وردت في حوار بين كريشنا، أحد ثالوث الآلهة الكبار في الهندوسية، مع أرجونا، بطل ملحمة «المهابهاراتا» الذي لا يهزم، قبل خوض معركة.
أطلق فيلم «أوبنهايمر» في 21 تموز/يوليو 2023، بعد 78 عاما (ناقص أسبوعين) على إلقاء القنبلتين الذريتين على هيروشيما وناغازاكي (6 آب/أغسطس 1945). وسيشتهر الاستشهاد بعد استخدام أوبنهايمر له بعد نجاح مشروعه لإنتاج القنبلة الذرية الأمريكية الأولى، وإلقاء اثنتين منها على اليابان، لكنه سيثير غضبا بين جمهور كبير من المتدينين الهندوس، وسيكتب مسؤول إعلامي كبير في الهند لمخرج الفيلم، كريستوفر نولان، لينذره بأن المشهد «اعتداء مباشر على المعتقدات الدينية لمليار هندوسي متسامح» وأنه «يرقى إلى حرب على المجتمع الهندوسي».
متأملا في النتائج المهولة لسقوط القنبلتين الذريتين، وفي الاحتمالات التي ستنتج عن إنتاج قنبلة هيدروجينية وبدء سباق تسلّح بين دول قادرة على إفناء البشرية، ينتهي الفيلم بمشهد لقاء أوبنهايمر بأينشتاين، يذكّره فيه بنقاش بينهما حول إمكانية أن يؤدي الانفجار الذري الأول إلى احتراق الغلاف الجوّي للأرض، وبالتالي تدمير العالم ليخلص إلى القول: أعتقد أننا دمرنا العالم!
لا مناطق رمادية: اقتلوهم جميعا!
على عكس ما يكشفه بطل فيلم «أوبنهايمر» من ميول سلمية ويسارية وإنسانية وإحساس بالندم من «أبي القنبلة الذرية» (كما سمّي) على فعل الإبادة الجماعية الذي تسبب به، سنجد المنتج التنفيذي للفيلم، الممثل جيمس وودز ينشر تصريحا «إباديا» حول غزة يطالب فيه بقصف «المتوحشين» فيها و»إعادتهم إلى العصر الحجري» مضيفا: «لا توجد مناطق رمادية. اقتلوهم جميعا».
يمكن لمحبي السينما أن يتذكروا جيمس وودز في دور أحد أفراد عصابة سرقة يهودية في نيويورك يخون رفاقه، وأهمهم ديفيد الذي يمثل دوره روبرت دينيرو، الذي يشي به للشرطة ويتزوج حبيبته ويصعد اجتماعيا ليصير عضو مجلس شيوخ فاسد في فيلم «حصل ذات مرة في أمريكا» لسيرجيو ليوني.
يستعيد فيلم «غولدا» الذي يصور دور مائير في حرب 1973 (أطلق الفيلم في يوم الذكرى الخمسين لتلك الحرب) موضوع الإبادة التي تعرض لها اليهود في الحرب العالمية الثانية، بطرق رمزيّة عديدة، منها، تصوير مراقبة مائير لسرب طيور كبير يدخل مدخنة وينفق جميعه، ومنها أيضا تدخينها المتواصل رغم إصابتها بالسرطان (وهو أمر يشبه حالة أوبنهايمر). يلمس الفيلم فكرة الإبادة بطريقة مباشرة، أيضا، بذكر احتمال استخدام إسرائيل للقنبلة النووية ضد الجيوش العربية.
تعرّض فيلم «غولدا» للنقد من قبل بعض الممثلين البريطانيين من أصل يهودي مثل، ديفيد بديل ومورين ليبمان، لأن بعض ممثليه، وعلى رأسهم بطلته الرئيسية، هيلين مورين، ليسوا يهودا، وقد ردت مورين بطريقة اعتذارية، مشيرة إلى أنها ستجري فحص جينات لمعرفة إن كان أحد أسلافها يهوديا! جدير بالذكر هنا أن ديفيد بديل، كتب فيلما بعنوان «الكافر» أطلق في عام 2010، ولعب دور البطولة فيه الكوميدي الإيراني الأصل أوميد جليلي، وهو عن اكتشاف رجل مسلم يقيم في شرق لندن ويدعى محمود نصير، أن أسلافه يهود، مما يدخله في أزمة هوية وبحث عن معنى اليهودية.
بعد أحداث غزة الأخيرة تحدث مارتن، كاتب فيلم غولدا، لوسائل إعلام، عن أن «الكثير من المشاعر المعادية لإسرائيل هي معادية لليهود» فيما قام ناتيف، مخرج الفيلم، بلعب دور مهم في الحرب الدائرة، حيث أصبح مصدرا لتلقي المعلومات ونشرها على وسائل التواصل الاجتماعي.
يعطي تدخّل صانعي «أوبنهايمر» و»غولدا» المباشر في موضوع الحرب الدائرة في غزة، إضاءة على اشتباك العلاقات بين الفني والسياسي والديني وانقلابات الأدوار فيها.
يتحسر أوبنهايمر في الفيلم على أن موعد إنتاج القنبلة الذرية تأخر، فلم تستخدم «ضد الألمان» وهي إشارة يمكن فهمها كإنقاذ للشعوب والفئات السياسية والاجتماعية والإثنية، التي كانت تحت النير النازي، لكنها يمكن أن تفهم أيضا على أنها فعل إبادة انتقامي يرد على فعل الإبادة النازي.
أمة مقابل أمة!
في الفترة نفسها التي أنتجت فيها القنبلة الذرية الأولى وألقيت على اليابان (أغسطس 1945) تشكّل تنظيم مسلّح من الناجين اليهود من المحرقة بهدف الانتقام بقتل ستة ملايين من الألمان.
حسب مؤسس التنظيم، أبا كوفنر فإن المطلوب هو قتل «أمة مقابل أمة» (في استعادة لبنود قانون حمورابي الشهير) وقد ذهب كوفنر إلى فلسطين (التي كانت تحت الانتداب البريطاني) لتأمين كميات من السم لتسميم مصادر المياه لقتل أكبر عدد ممكن من الألمان، وقد تمكنت عناصر التنظيم من تسميم مصدر المياه في مدينة نورمبرغ، لكن كوفنر اعتقل عند وصوله إلى القسم الذي كانت بريطانيا تحتله من ألمانيا. لجأت «نقم» إلى «الخطة ب» وهي تسميم معتقلي الحرب الألمان في المنطقة التي تحتلها أمريكا، وحصلوا على الزرنيخ من مصدر محلي ووصلوا إلى مخبز السجن وسمموا ثلاثة آلاف رغيف، كانت قادرة، حسب «إدارة التسجيلات والأرشيف الوطنية» في ألمانيا، على قتل 60000 سجين، لكنها أدت فعليا لتسمم قرابة 2000 سجين فقط. رغم اعتبارها منظمة إرهابية فإن المدعي العام الألماني أسقط التهم بحق اثنين من عناصرها، بسبب «الظروف غير الاعتيادية» لأعضائها. عند وصولهم إلى فلسطين تلقى أعضاء المنظمة ترحيبا من منظمة «الهاغاناه» وحزب العمل الإسرائيلي، لكن بعضا منهم عاد إلى أوروبا لـ»إكمال المهمة» وبسبب الصعوبات التي خلقها تأسيس جمهورية ألمانيا الفيدرالية، فقد انتهى الأمر ببعضهم إلى حياة إجرام وسجن، ثم ليتمكنوا من الهرب بمساعدة من أعضاء في «المقاومة الفرنسية» وذهب أغلبهم إلى إسرائيل بعد تأسيسها بعامين.
جرت عدة محاولات لتوثيق محاولات «نقم» منها كتاب لمايكل بار ـ زوهار، صدر عام 1969 بعنوان «المنتقمون» ثم صنعت منها نسخة روائية بعنوان «الامتحان بالنار» عام 1971، وأخرى بعنوان «الحساب النهائي» وصدر عمل وثائقي للقناة الرابعة البريطانية بعنوان «هولوكوست ـ حبكة الانتقام» لكن أكثر هذه النسخ الفنية المأخوذة عن تاريخ المنظمة إثارة، ربما، هي الأغنية التي ألفتها فرقة موسيقية من اليهود اليديش الألمان أطلقت عام 2009 أغنية بعنوان «ستة ملايين ألماني (نقم)».
خلال مقابلة مع بوليك بن يعقوب، رئيس المجموعة التي عادت لاستكمال مهمة الانتقام في أوروبا، قال إنه «لم يكن يستطيع أن ينظر إلى نفسه في المرآة لو لم يحاول أن ينتقم».
ماذا ترى الآن إسرائيل في المرآة؟
كاتب من أسرة «القدس العربي»