هل انتهت قصة مقتدى الصدر في العراق؟ وهل سيكون كذكر النحل في ممالك الخلايا، كل دوره أن يلقح الملكة فيموت؟
بدا السؤال طافيا على سطح الحوادث العراقية الساخنة، التي كان الصدر بطلها الأوحد تقريبا، فقد أعلن المعمم المثير للجدل اعتزاله نهائيا للعمل السياسي ليلة الاثنين 29 أغسطس/آب 2022، وأوقف تغريداته وصفحات تياره الصدري على كل مواقع التواصل الاجتماعي، وبدا التصرف المفاجئ كإشارة افتتاح ليوم عصيب صاخب طويل في حياة العراق، بدأ باقتحام آلاف من التيار الصدري لما يسمى بالمنطقة الخضراء «الدولية» شديدة التحصين في بغداد، وزحف الصدريون من مبنى البرلمان إلى القصر الحكومي، وخرج المتظاهرون الصدريون في عواصم محافظات الجنوب، فيما بدت الحكومة العراقية عاجزة عن التصرف، واكتفت بإعلان حظر التجوال، واستنفرت قواتها لإخراج الصدريين من المسابح والقاعات الحكومية الفخمة، ومن دون أن تكون النتيجة تهدئة للوضع المتفجر بمشاهده «السريلانكية»، بل مشت الأوضاع إلى صدام مسلح، وإلى حرب ليلية بالقذائف والهاونات في كل «المنطقة الخضراء»، ومن دون أن يعرف أحد هوية المتقاتلين بالأسلحة المتوسطة والثقيلة، وإن بدت الصور المنقولة كاشفة إلى حد ما، وظهر المسلحون من التيار الصدري على الشاشات بوجوه سافرة، فيما بدا الطرف الآخر حريصا على التخفي، وإن كانت هويته متداخلة ومختلطة بأزياء ما يعرف باسم «الحشد الشعبي»، وفصائله الملتصقة بما يسمى «الإطار التنسيقي» الشيعي المعادي للصدريين والأكثر ولاء لإيران، وسقط في القتال الليلى عشرات القتلى ومئات الجرحى، بعضهم من فصائل الولاء الإيراني، وآخرون من مسلحي التيار الصدري، وجناحه المسلح المعروف باسم «سرايا السلام»، وسرعان ما دخل على الخط مقتدى الصدر المعتزل للسياسة لتوه، وأعلن إضرابه عن الطعام احتجاجا على ما يجري، ثم دعا إلى ما سماه مؤتمرا صحافيا في مقر إقامته بالنجف، ومن دون أن يجيب على أسئلة الصحافيين الحاضرين، مكتفيا بكلمته القصيرة المنفعلة، التي بدت عباراتها القاطعة محشوة بالقذائف، وأعطى مهلة قصيرة لا تزيد على ستين دقيقة، ينسحب فيها الصدريون من المنطقة الخضراء كلها، وينهون الاعتصامات، ويوقفون حتى المظاهرات السلمية في أي مكان، ويهددهم بالتبرؤ منهم إن فكروا في عصيان الأوامر، ولم تمر سوى دقائق وثوان، كان فيها المتظاهرون مسلحون وسلميون ينفذون الأوامر بحذافيرها، ويعلنون الطاعة العمياء الكاملة لأوامر السيد، الذي أنهى القتال بكلمة ذات مفعول سحري، قال فيها إن القاتل والمقتول في النار، وصب جام غضبه على ما سماه «الميليشيات الوقحة»، داعيا الصدريين إلى عدم مبادلة الوقاحة بالوقاحة، وجعل العراق أسيرا للعنف والفساد.
مع إعلان الصدر تركه للساحة كلها، تبدو الطريق مفروشة بالورود لخصومه ولاختيارهم لحكومة محاصصة جديدة، مع إطلاق وعود مؤجلة بالإصلاح
هكذا جرى، ومن دون أن تنفذ الحكومة قرارها الصوري بفتح تحقيق عاجل، ولا أن تحاسب أحدا من مسلحي الأطراف كافة، وبدا أن صفحة الحرب الأهلية الجديدة قد طويت، فيما تفرغت الأطراف كلها للإشادة بدور الصدر، وبالمثال الوطني الرفيع الذي عبّرعنه، كما قال مصطفى الكاظمي رئيس الحكومة، وكما فعل خصوم الصدر، الذين سحبوا بدورهم خيام معتصميهم من أمام المنطقة الخضراء، فيما تركهم الصدر في حيرة شاملة من أمرهم، فهم يتحدثون عن حوار، لن يشارك فيه الصدر بعد قرار اعتزاله، فقد رفض الحوار حتى من قبل الاعتزال، وقال إنه لا فائدة ترجى من حوار إضافي مع فاسدين ولصوص، يتصدرهم خصمه اللدود نوري المالكي، ودعاهم جميعا مع أحزابهم إلى اعتزال السياسة والانتخابات وتشكيل الحكومات، وإلى رحيل كل الأطراف المشاركة على الساحة بعد غزو العراق والإطاحة بنظام صدام حسين عام 2003، وبدا طلب الصدر الراديكالي مستحيل التنفيذ والقبول، فحكومات وأفراد المحاصصة الطائفية والعرقية، لا تستغني عن عبيدها ومصالحها وثرواتها المكدسة بالفساد والنهب العام، وقد سرقوا ما يزيد على التريليون دولار في العشرين سنة الأخيرة، والمالكي (تاجر السبح السابق) حصل وحده على نحو سبعين مليار دولار، وقد كان أطول رؤساء وزراء عراق ما بعد «صدام» عمرا في منصبه بين عامي 2006 و2014، وهو يخفي فرحه بين ضلوعه اليوم بعد اعتزال الصدر، ويتصور أن الطريق انفتح بعد تصرف الصدر الأخير، وأن البرلمان صار ممكنا عقده بعد زوال الاعتصام، ثم اختيار رئيس جمهورية كردي بتوافق الأطراف الكردية، أو من دونه، ثم تنصيب رئيس حكومة موال للإطار التنسيقي الشيعي، سواء كان رجل المالكي محمد شياع السوداني أو غيره، ثم توزيع المناصب والحصص والثروات المسروقة كالعادة، بعد أن استفاد هؤلاء رسميا من انسحابات الصدر، فقد حل نواب من «الإطار التنسيقي» محل نواب الكتلة الصدرية، الذين أطاعوا أوامر الصدر بلا نقاش، وتركوا مواقعهم كأكبر كتلة فائزة بانتخابات أكتوبر/تشرين الأول 2021، فشلت جهودها في تشكيل حكومة أغلبية وطنية، «لا شرقية ولا غربية» كما كان يصفها زعيمهم، في إشارة ظاهرة لرفض الهيمنتين الأمريكية والإيرانية معا، ومع إعلان الصدر تركه للساحة كلها، وإطلاقه لتعبير «بئست الثورة» بعد تحولها إلى العنف، تبدو الطريق مفروشة بأمان الورود لحركة خصوم الصدر، ولاختيارهم لحكومة محاصصة جديدة، مع إطلاق وعود مؤجلة بالإصلاح، وتغيير الدستور وقانون الانتخابات، والدعوة لحل البرلمان في ما بعد، وإجراء انتخابات مبكرة جديدة على المقاس، بعد التخلص من حكومة مصطفى الكاظمي المؤيدة سابقا من الصدريين، واستخلاص سلطة القرار والمال لميليشيات الولاء الإيراني من وراء واجهات حكومة هشة مزيفة، فيما يبقى الفقر والبؤس والدمار والخراب والضياع من نصيب غالبية العراقيين، خصوصا مع غياب المعارضة الصدرية واعتزال الصدر نفسه.
وعلى الرغم من قرار الاعتزال الأخير، لا يبدو غياب الصدر مرشحا للدوام، فقد سبق أن أعلن اعتزاله السياسة عام 2014، وقرر وقتها إغلاق مكاتب التيار الصدري، وحل منظمته المسلحة «جيش المهدي» ذات الستين ألف مقاتل، وتحويلها إلى منظمة ثقافية سماها «سرايا السلام»، ثم عاد لفك اعتزاله والعودة لانتخابات وحكومات، وإلى أن قرر إعادة تسليح منظمة «سرايا السلام» عام 2020، وهي التي برزت في ليلة العنف الأخيرة، وقد يعود الصدر مجددا عن قرار الاعتزال، وقد أصبح الرقم الأصعب في المشهد السياسي، وفي أوساط شيعة العراق بالذات، ولديه خزان هائل من ملايين الأنصار بين الشيعة الأكثر فقرا، الذين تحرك شبابهم نوازع وطنية اجتماعية لا طائفية ولا مذهبية، فالصدر ليس مرجعا دينيا بالمقاييس الشرعية المعتمدة، بل صار مرجعا شعبيا، ورث حضوره العفي عن المراجع الدينية في عائلته، وبالذات عن والده آية الله محمد صادق الصدر، الذي قتل مع اثنين من أبنائه عام 1999 أواخر زمن صدام حسين، وحين قرر الصدر الاعتزال أخيرا، فقد بدا موزعا نفسيا بين الطاعة المرجعية والإغراء السياسي، فقد أوصى والده المقتول بطاعة تلميذه كاظم الحائري من بعده، وقد انتقل الحائري من النجف العراقي إلى قم الإيرانية، وقبل ساعات من قرار اعتزال الصدر، كان الحائري قد أصدر بيان اعتزال دوره الديني كمرجع، بدعوى تدهور صحته البدنية، وهو سلوك نادر فريد بين مراجع الشيعة، دفعته إليه أو شجعته القيادة الإيرانية على ما يبدو، وكوسيلة للخلاص من صداع مقتدى الصدر، وتحديه لجماعات الولاء الإيراني في العراق، وهو ما بدا ظاهرا في بيان الحائري، فقد أوصى مقلديه ومريديه بالتحول إلى طاعة المرشد الإيراني علي الخامنئي، ونقل الحقوق الشرعية المالية إلى حوزته الشخصية، وكان على مقتدى الصدر أن يطيع بصفته مقلدا للحائري كوصية أبيه، وقد فعل خلاصا من الحرج الديني، غير أنه عبّر عن استيائه من إشارة بيان الحائري لشخصه، ووصفه للصدر بأنه «فاقد للاجتهاد وشرائط القيادة الشرعية»، ثم وصفه بأنه ليس صدريا و»إن دعا وانتسب»، وهو ما عارضه مقتدى في تغريدة صريحة، جاء فيها نصا «يظن الكثيرون بمن فيهم السيد الحائري، أن هذه القيادة جاءت بفضلهم أو بأمرهم، كلا، إن ذلك بفضل ربي أولا، ومن فضل والدي محمد صادق الصدر، الذي لم يتخل عن العراق وشعبه»، بدا الرد تعريضا بالمرجع الحائري نفسه الهارب لإيران، والذى سبق له أن هاجم سلوك مقتدى الصدر عام 2011، حين نفذ «جيش المهدي» عددا من العمليات ضد قوات الاحتلال الأمريكي، ودخل في صدام مع المالكى المؤيد وقتها من الحائري وإيران وأمريكا، وبما أدى إلى دفع الصدر لاعتزال السياسة بعدها تقية، ثم عاد عن اعتزاله، تماما كما يمكن أن يتكرر هذه المرة أيضا، ويعود «الصدر الصغير» من غيابه السياسي المراوغ.
كاتب مصري