التاريخ العبري والتاريخ الميلادي يلتقيان معاً كل 19 سنة. اليوم هو عشية رأس السنة العبرية وهو أيضاً يوم الذكرى السنوية الـ19 لاندلاع الانتفاضة الثانية التي بدأت في 29 أيلول 2000 عشية رأس السنة العبرية 5706.
اندلعت الأحداث في الصباح بعد يوم من زيارة اريئيل شارون إلى الحرم، الذي كان في حينه رئيس المعارضة. ضابط من حرس الحدود، يوسف طبجة، كان القتيل الإسرائيلي الأول بإطلاق النار من قبل شرطي فلسطيني في الدورية المشتركة في قلقيلية. في الخمس سنوات التالية قتل أكثر من 1100 إسرائيلي وأكثر من 3200 فلسطيني، قبل أن تخبو الانتفاضة الثانية. نتائجها الأمنية والسياسية – شك متبادل كبير، وجمود سياسي مطلق وأفضلية ثابتة تقريباً لليمين في الحملات الانتخابية في إسرائيل– يشعر بها الطرفان جيداً إلى الآن.
مقارنة مع تلك الأيام الفظيعة، تسير الحياة في الضفة الغربية بهدوء. وأصبح اليأس والاحتلال أيضاً أكثر راحة. الخلاف الذي ساد في المجتمع الإسرائيلي على مستقبل المناطق ما زال يحلق في الفضاء، ولكن أصبح النقاش الكثيف حوله أقل مما كان في السابق. الأعمال “الإرهابية” ما زالت تحدث، وأحياناً عدة مرات في الشهر، لكن عدد المصابين أقل بصورة كبيرة. والآن بات تأثير الأحداث على الساحة السياسية محدوداً جداً.
الجمهور الفلسطيني أيضاً يرد بشكل مختلف: سكان الضفة كانوا يفضلون التحرر من نير الاحتلال الإسرائيلي، لكن تذكر الثمن الذي دفع في بداية العقد الماضي دون أن يؤدي إلى نتائج حقيقية في الضفة (مقابل الانفصال عن قطاع غزة)، يردع خيار تصادم طويل ومؤلم آخر. والغضب المتراكم على إسرائيل لا يجذب الجمهور لنشاطات عنيفة حتى عندما توفر التطورات لذلك الكثير من الذرائع والمبررات. من مئات القتلى بنار قناصة الجيش الإسرائيلي على الحدود في القطاع وحتى نقل السفارة الأمريكية إلى القدس.
الشخص الذي تولى قيادة المنطقة في السنوات الأخيرة هو العميد عيران نيف، الذي أنهى قبل أسبوع وظيفته كقائد لفرقة يهودا والسامرة. نيف (49 سنة) قام بكل وظائفه القيادية الأولى في لواء “ناحل” في التسعينيات. منذ اندلاع الانتفاضة الثانية تركزت خبراته العملية في الضفة: قائد كتيبة في الناحل في زمن عملية “السور الواقي” وبعدها. ثم عمل قائداً إقليمياً بعد انتهاء الانتفاضة، والآن هو قائد للفرقة. في عام 2002 عندما كان قائد كتيبة عُرف بانقضاضه على عدة خلايا للمخربين، منها خلية الجهاد الإسلامي التي قتلت 12 جندياً إسرائيلياً وعلى رأسهم قائد لواء الخليل العقيد درور فاينبرغ بعملية في “طريق المصلين”.
عندما سئل نيف الآن في مقابلة مع الصحيفة عن الشيء الأهم الذي تعلمه في السنتين الأخيرتين في الضفة، عرض رسماً بيانياً وزعه على وحداته مع انتهاء وظيفته. وحسب تقديره، فإن 1 في المئة من الفلسطينيين في المنطقة مشاركون في أعمال العنف. كما أن هناك بضع نسب مئوية قليلة كانوا معنيين بالقيام بذلك، لكنهم خائفون بسبب الثمن الشخصي الذي يمكن أن يدفعوه. “باقي الجمهور خارج دائرة الإرهاب. الهدف هنا الحفاظ على الـ99 في المئة خارج الدائرة”، قال” “عندما يشارك في أعمال العنف هؤلاء المواطنون الخائفون من الردع فإن التوتر يزداد، وعندما يتغلغل هذا في باقي السكان سنحصل على تصعيد كبير”.
عندما سئل عن مستوى التنسيق الأمني مع الأجهزة الأمنية الفلسطينية كان جوابه حذراً وتقريباً متملصاً. تفسير ذلك واضح: “إن إطراءات إسرائيلية علنية على أجهزة السلطة ستعرض كبار الشخصيات فيها كمتعاونين وسيعقدون مواقفهم في أوساط الجمهور في الضفة”. مرة أخرى.. التنسيق وثيق ويساعد في منع الإرهاب ضد الإسرائيليين. حسب “نيف”، يستند الهدوء النسبي في الضفة إلى ثلاث دعائم: الأولى هي استقرار حكم السلطة، والثانية الشعور بأمن ما في أوساط الفلسطينيين الذين لا يشعرون بأن حياتهم معرضة للخطر بسبب الفوضى والأعمال الجنائية أو نشاطات إسرائيل، والثالثة وضع اقتصادي معقول.
في الأشهر الأخيرة تضرر الاستقرار الاقتصادي، وبعد بضع سنوات من نمو إيجابي جاءت المشاكل: تقليص في أموال المساعدات الأمريكية، بما في ذلك تمويل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين “الأونروا”، ثم أزمة شديدة مع إسرائيل التي خصمت من أموال الضرائب المعادة للسلطة كعقاب على المساعدة الاقتصادية الفلسطينية للسجناء الأمنيين. في هذا الشهر، عشية الانتخابات، جرى تحويل مبلغ 2 مليار شيكل للفلسطينيين التي تم تجميدها خلال بضعة أشهر، وذلك في إطار تسوية. يأمل الجيش أنه بذلك يمكنه ضمان استقرار ما في الضفة، على الأقل حتى نهاية السنة.
قائد الفرقة السابق أكد أن مساعدة السجناء محفز اقتصادي يؤثر على اعتبارات عدد من المخربين قبل الذهاب لتنفيذ عملية. “لقد واجهنا حالات ذهب فيها أشخاص لتنفيذ عملية يعرفون في أعقابها أنه سيحكم عليهم بالسجن فترة أكثر من خمس سنوات، لأن مستوى المساعدة الاقتصادية التي ستحصل عليها عائلاتهم من السلطة سيرتفع”، قال: “وهذا سيكون دافعاً لهؤلاء الأشخاص الموجودين في ضائقة اقتصادية جديدة”.
يجب التمييز والتدقيق
يعدد “نيف” عدداً من الدوافع السلبية للتصعيد: سفك الدماء، والمس بالرموز الدينية واحتكاك وطني بين الفلسطينيين والمستوطنين. العامل الديني حساس بشكل خاص. إن عاصفة وضع البوابات الإلكترونية بعد قتل شرطيين من حرس الحدود في الحرم القدسي صيف 2017 كانت مثالاً جيداً لذلك. في آب، شاهدنا تصعيداً قصيراً بعد غضب فلسطيني عندما قام يهود باقتحام ساحات الحرم في 9 آب، الذي تزامن مع عيد الأضحى الإسلامي. وحسب أقواله: “سفك الدماء يؤدي إلى تأجيج المشاعر. عملية ناجحة تجر خلفها محاولات تقليد. وعندما يكون الرمز الديني في المركز فهذا يشكل خطراً على الأرواح، وعندما يحدث ذلك نزج بمزيد من القوات إلى الميدان، إلى أن تمر سلسلة العمليات”.
كلمتا المفتاح اللتان قالهما نيف لمرؤوسيه في السنتين الأخيرتين هما التمييز والتدقيق. “يحظر عليك بسط يدك. عليك أن تعمل ضد من يشارك في أعمال العنف. عقاب جماعي يعدّ أمراً إشكالياً حتى من ناحية أخلاقية ومهنية أيضاً. أنت تدفع المزيد من الأشخاص لمواجهتك. وعندما انحرفنا عن هذه التوجيهات تمت معالجة ذلك بقسوة. وعندما ضرب الجنود المعتقلين تم إرسال البعض إلى السجن (نيف قصد جنود كتيبة الناحل الأصولية الذين نكلوا بمن ساعدوا الخلية التي قتلت زميلين لهم). لقد أصدرت كراسة للجنود والضباط وأوقفنا جميع النشاطات حتى فهم الأشخاص القواعد”.
“هذه ليست أجندة سياسية” شرح موقفه. “كلما زاد عدد الفلسطينيين الذين خارج دائرة العنف، انخفض عدد العمليات. هذه أجندتي. لا تؤثر يهودا والسامرة في هذه الأثناء أمنياً على دولة إسرائيل، ثمة صراع سياسي ولا يمكنني طرح تقرير الحل للمستوى السياسي. ليس لدي جواب أفضل مما لديهم. ولم أشعر بأنهم يفرضون عليّ ما يجب فعله”.
في الشهر الماضي قتل إسرائيليان: طالب في مدرسة دينية، دبير شوريف الذي طعن حتى الموت في غوش عصيون، والفتاة رينا شنراف التي قتلت بتفجير عبوة ناسفة عند النبع الذي يقع غرب رام الله. ورغم ذلك، عدد المصابين وعدد العمليات في هذه السنة هو أقل مما كان في الفترات الموازية من السنة الماضية. يعزو نيف هذا الانخفاض إلى تحسين أداء القوات في الميدان الذين تم إعدادهم بشكل أفضل للخدمة في الحواجز والدوريات. “بعد أن تكبدنا إصابات شديدة في مواقف السيارات في عوفرا وجفعات أساف، قمنا بعملية تحسين طويلة. ولكن هذا لا يعزي أي عائلة ثكلى. في نهاية المطاف.. قتل أشخاص. هذا حدث ونتحمل المسؤولية عن ذلك”.
العبوة الناسفة التي قتلت شنراف كانت ناجعة وقاتلة أكثر من معظم العبوات الناسفة التي استخدمت في الضفة في السنوات الأخيرة. هذه السنة تم الكشف أيضاً عن عبوة بوزن 100 كغم في جنين. خلية تابعة لحماس من نابلس أنشأت مختبراً للعبوات الناسفة وخططت لإرسال مخرب لتنفيذ العملية، وثمة مختبر مشابه لحماس في الخليل. قال القائد السابق عن ذلك: “الجمهور يرى بشكل عام فقط ما ينفذ وما هو موجود فوق الأرض، لكن في عام 2018، حسب معطيات الشاباك، تم إحباط أكثر من 200 عملية. في كل سنة نعتقل 3 آلاف شخص بتهمة المشاركة في الإرهاب والعنف. الفكرة هي الحفاظ على الباقين خارج دائرة العنف. في السنة الماضية كان حل لغز عملية شديدة واعتقال المشاركين يستغرق أسبوعاً. في هذه السنة انخفض الزمن من يومين – ثلاثة أيام. وهذا يحدث بفضل تحسين عمل الاستخبارات والاعتماد المتزايد على التكنولوجيا. في عدد كبير من الأحداث، يتم توثيق المخربين بالكاميرات المنتشرة في الميدان. من هنا تكون الطريق إليهم قصيرة بشكل عام”.
بعد كل عملية في الضفة تقريباً يستل وزراء الحكومة صفحة الرسائل الثابتة لديهم ويتهمون السلطة الفلسطينية بالمسؤولية عن الإرهاب. لا يتجاهل “نيف” التحريض على الإرهاب في وسائل الإعلام وجهاز التعليم في الضفة، لكنه لا يسارع إلى ركوب هذه الموجة. وحسب أقواله، قرر رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس أن “يحارب إسرائيل بطريقة أخرى، وليس بالعنف والإرهاب. لا نشخص تشجيعاً للعنف من جانب قيادة السلطة ولا من جانب أبو مازن، لكن هذا لا يعني عدم وجود تحريض”. وأضاف: “أبو مازن يعمل من أجل قمع من يهدده ويهدد استمرار حكمه. ويجب القول إنه من المهم جداً الحفاظ على التنسيق الأمني. لا شك بأننا بدون التنسيق الأمني سنكون معرضين لزيادة كبيرة في العمليات في الضفة. عليّ الأخذ في الحسبان بأن هذا قد ينقلب. لا يوجد يوم لا نستعد فيه لاحتمالية أن يعود “التنظيم” ويحمل السلاح ضدنا”.
المجندات يستطعن أيضاً
إحدى الصعوبات المركزية التي وقفت أمام “نيف” في الضفة هي الحاجة إلى الحفاظ على يقظة المقاتلين في الساحة التي لا تحدث فيها الأحداث الأمنية بوتيرة مرتفعة كما كانت في السابق. “بعد بضعة أيام في ساحة معينة، تبدأ يقظة الجنود في الانخفاض. هناك جنود غير مبالين ولا يعتقدون بأن الخطر حقيقي”، قال: “المشكلة هي أن المدافع هناك كل الوقت، والمهاجم يجب أن يهاجم مرة واحدة فقط. وعليك أن تحضر الجندي الذي يصل إلى ذروة الأداء خلال ثوان. جزء من هذا مبني على التحذير الاستخباري والقدرة على إعطائه ولو بضع ثواني تحذير مسبقة كي يستطيع الاستعداد”.
في السنة الأخيرة بدأ الجيش الإسرائيلي بمشروع تجريبي لـ”منطقة ذكية” في محاولة لتوفير تحذير كهذا للقوات. “في أحداث مثل التي تحدث هنا، فإن المسألة الأساسية بخصوص كل جندي هي هل كان لديه الوقت الكافي لسحب أقسام سلاحه مسبقاً. إذا سحب أقسام السلاح، فقد انتهت الحادثة ولا يستطيع أحد الانتصار عليه”.
هذه القاعدة صحيحة أيضاً بالنسبة للمجندات. في شهر آذار الماضي بعد عملية أصيبت فيها قوة من وحدة مدفعية مختلطة، التي تخدم فيها مجندات أيضاً، تم توجيه انتقاد لوضع مجندات في نشاطات عملياتية في الضفة الغربية. “لقد عارضت إخراج الكتائب المختلطة من يهودا والسامرة”، أوضح نيف، “لو اعتقدت بأنه لا يمكن للمجندات إعطاء رد عملي بصورة مهنية، لما سمحت لهن بالعمل في هذا القطاع. يمكنني القول بأن أي مجندة في الجيش يمكنها وتعرف كيفية مواجهة المخربين وبصورة مهنية. لدى المجندات الوسائل المطلوبة ويعرفن كيف يعملن”.
بقلم: عاموس هرئيل وينيف كوفوفيتش
هآرتس 29/9/2019